اسهاما منا كعدول جدد في النقاش الدائر حول مسألة رفع خطاب قاضي التوثيق عن الوثيقة العدلية يأتي هذا المقال.
بداية نقول انه لا يختلف اثنان في كون ان مهنة التوثيق من الاهمية بمكان في المنظومة القانونية لأي مجتمع، وذلك من حيث الدور المنوط بها بوصفها صورة من صور تحقيق العدالة، وأداة لتكريس فكرة الأمن القانوني.
وإذا كان من المنطق والمصلحة مراقبة القضاء للوثيقة العدلية لضمان الأمن القانوني ومن خلاله الأمن القضائي، فإنه ليس من المنطق ولا من المصلحة أن تتوقف رسمية الوثيقة العدلية على خطاب قاضي التوثيق.
وإذا كان التوثيق “صناعة جليلة شريفة، وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية، وحفظ أموال الناس….كما قال الفقيه ابن فرحون، فهو بذلك يساهم في توفير الحماية القانونية للزبناء ويحقق الامن التعاقدي الذي يعتبر من أسس التنمية الشاملة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بنظام إثبات منظم ومتطور.
وأعتقد أنه مع تقدم وسائل الإتصال الحديثة وتطور التقنية التي أفضت الى الإنتقال من التعامل الورقي الى التعامل التقني المعلوماتي، ستتغير المفاهيم حول الوثيقة العدلية بإعتبارها ركيزة اساسية في منظومة التوثيق في المغرب، والتي للأسف الشديد باتت عاجزة عن إستيعاب هذا التطور.
فاليوم اصبح المحرر والتوقيع الإلكترونيين رهان الدولة مستقبلا، مما يطرح السؤال حول مدى قدرة الوثيقة العدلية بشكلها الحالي على رفع راية التحدي والانخراط في التجديد الذاتي الكفيل باستيعاب التغيرات العملية والقانونية والمجتمعية المتلاحقة.
ان الأدوار الطلائعية التي اصبح اليوم العدل يلعبها في مجال التوثيق وحفظ الحقوق والمساهمة في تحصيل الرسوم والحقوق الجبائية لفائدة خزينة الدولة (تنمية مالية الدولة)، رغم كل العراقيل والتهميش الذي يعانيه بسبب تعدد المتدخلين في انشاء الوثيقة العدلية من عدل “عاطف” وقاضي وناسخ، تستوجب اعادة النظر ودون انتظار في الاجراءات التي تعرقل عمل العدل وعلى رأسها خطاب القاضي والذي إقتضته ظروف تاريخية لم تعد قائمة اليوم.
ان مطالبة العدول بالتجديد والتغيير غير كافي لأن التغيير عملية مشتركة يجب ان تعم الجميع، فما الغاية من عصرنة العدل مع الابقاء على تقليدانية الوثيقة العدلية، فمهنة “خطة عدالة” لم تعرف تغييرا جوهريا يكون في مستوى التحديات والتطلعات منذ قرون بينما مهن اخرى ذات الصلة كمهنة التوثيق”العصري” والتي لا يتجاوز عمرها 95 عاما منذ ان أنشأت من قبل المستعمر الفرنسي بالمغرب اصبحت مؤسسة لها الكلمة العليا في “سوق التوثيق” على المستوى الوطني بل وعلى المستوى الدولي.
هذا الاهمال المتعمد والإزدواجية في المعايير من قبل الدولة في التعامل مع العدول ادى الى توسيع الهوة بين المهن القانونية والتي تمارس في نفس المجال، كما ساهم في تقزيم عمل العدول وجعله مرتبطا بمسائل دينية شرعية فقهية.
ولكن لنكون منصفين فالجزء الكبير مما آلت اليه الاوضاع بخصوص تدهور المهنة يتحمله ممارسيها الذين ظلوا مرتبطين بماضي متعب عفا عنه الشرع والقانون والزمان.
هذا وذاك أدى الى هضر وقت طويل وتضييع فرص على المهنة كي تواكب العصر ومتطلباته من التقنية المعلوماتية…ونحو ذلك.
وبالتالي فان مهنة العدالة في حاجة الى التغيير في زمن العولمة وثورة المعلومات والسوق الحرة والشركات العابرة للقارات والحدود الثقافية المفتوحة، وهناك أمانة في أعناق كل العدول القدامى والجدد تجاه المهنة بتطويرها بما يوافق العصر الحديث ،لا الانتظار والاعتماد على التشريع فقط لان الواقع الجديد يتطلب العلم والاجتهاد وتنمية الحس القانوني.
ان هذه الدعوة لم نتوخ منها اثارة الانتباه الى ما يحدق بنا من مخاطر فحسب، بل هي دعوة الى التفكير بجد في كيفية مواجهة المستجدات المتسارعة.
وباعمال المنطق الذي اشرنا له سابقا،في استخلاص النتائج من هذا التعطيل لدور الوثيقة العدلية وحرمانها من الرسمية في مقابل تخويل الموثق اعطاء الرسمية للعقود التي يتلقاها : نقول ان الرسمية ليست امتياز او منحة وانما هي واجب الدولة،
فالعدل لا يكتب الوثيقة لنفسه حتى يعامل بمنطق الربح والخسارة بل يكتبها للغير (المواطن) الذي يفترض ان الدولة لما تبنت الرسمية في العقود كان هاجس حماية هذا المواطن هو الاساس، باعتبار ان الوثائق الرسمية تصدر باسم الدولة.
وباعتبار كذلك ان مهنة التوثيق ليست سلطة او امتياز تجعل العدل في منأى عن المساءلة وانما هي خدمة عامة، وتكليف العدل بها على ان يكون هدف التكليف اثناء اداء عمله خدمة المواطن او بالأحرى المصلحة العامة وإعتبارا لذلك يجب ان تعطى للعدل الإمكانية القانونية لذلك.
وترتيبا لذلك فلا يجوز التمييز بين الخدمة التي يقدمها العدل عن الخدمة التي يقدمها الموثق، فتعليق رسمية الوثيقة العدلية على خطاب القاضي تمييز قانوني يتعارض مع منطق الحال والمقتضيات القانونية .
فإذا كان المشرع قد اعترف في ديباجة القانون رقم 16.03 بأن هذا الأخير جاء “استجابة للبرنامج الاصلاحي الذي نهجته الدولة المغربية في شتى القطاعات من اجل تخليق الحياة العامة وتحديث الاساليب والمناهج المتبعة في التسيير الاداري والمهني، وعصرنة المهن الحرة، لمواكبة التنمية الاقتصادية والاجتماعية…كما انه استجاب لانتظارات الفاعلين في القطاع على جميع المستويات ” فانه لم يعد كذلك، فأصوات العدول ملأت السماء بأن هذا القانون إهترء واصبح من المتلاشيات، فهل من مستمع؟
وخلاصة القول : ان العدل يعتبر جزءا من النظام القانوني للدولة، فهو يباشر مهنته لاثبات الاعمال القانونية للافراد،والعدل حينما يمارس مهمته بدون استقلال (الهيمنة والتأثير)، هذا لا ينسجم مع المغزى من انشاء وظيفة العدل لضمان تحقيق الامن القانوني، سواء للاعمال التي تخضع لمقتضى الشرعية او الصحة التي يطالب بها الاطراف، اذ يمكن القول ان العدل بهذا يؤدي واجب قانوني بدون شرعية.
وعليه، فانه يجب مراجعة مؤسسة قاضي التوثيق مراجعة شاملة لتحقيق التغيير البنيوي المؤمل في مؤسسة التوثيق خصوصا ان الاحكام التي بني عليا القانون رقم 16.03 اغلبها مستمد من الفقه الاسلامي (المشهوروالراجح وما جرى به العمل)،وهذا الاخير يعترف بتغير الاحكام مع تغير الظروف والأزمان.
فالإبقاء على الخطاب لتبريرات واهية لا يمكن القول بها ،فالعدول اليوم يعينون من قبل الدولة بعد اداء اليمين وليسوا بحاجة لمن يعرف بهم، كما الغاية الاساسية من الخطاب بموجب المادة 35 من القانون هي :
1-ضمان الموارد المالية للدولة(التسجيل) فهذا الامر اصبح تحصيل حاصل خاصة ان العدول ملزمون بذلك
2- مراقبة الوثيقة وهذه المراقبة اصبحت اليوم مراقبة شكلية لا فائدة منها اذا ما احصينا عدد الوثائق العدلية المستبعدة من قبل قضاء الموضوع اما بسبب الإخلالات الشكلية او الموضوعية فيها ، فما الغاية اذن من مراقبة القاضي للقاضي.
كل هذا وما سبق يستخلص منه ان خطاب القاضي ما هو الا “عصا في عجلة الوثيقة العدلية” يجب التخلص منه وفق مقاربة قانونية تشاركية.
الاستاذ مصطفى امباركي
اضف تعليقا