استرعى انتباهي في كثير من مداخلات الأساتذة العدول وغيرهم من المهنيين القانونين (في كتاباتهم أو في مداخلاتهم على الفضاء الأزرق ..) بعضُ التحرجِ وأحيانا التحاملُ على نماذج العقود الأصيلة التي هي عمود عمل العدول الموثقين (واسأل به خبيرا)، ونُوديَ غير ما مرة بدعواتٍ لتبني عقودٍ مبتكَرة من اجتهاد العدل الموثق تُنَحِّي الموروث التوثيقي شكلا .. وأحيانا تضربُ حتى في المضمون ، فأردتُ أن أسهِم برأي أحسبه صوابا (والله أعلم وأحكم) وذلك في شكل نقاطٍ مختصرة (وإلا فالأمر يحتاج إلى مزيد بحث وتمحيص وهو ما أدعوكم ونفسي إليه ) .
– إن هذه النماذج صِيغتْ بأساليب لغوية بديعة و بمُحَسنات تُظهر لقارئها تمكنَ المحرر الموثق من اللغة العربية ومن ضبطه لقواعدها . وفي ذلك مؤشر على قدرة الموثق على توصيف نية وقصد المتعاقدين بالشكل المطلوب والمرغوب (فكم من قصدٍ وفهمٍ قصرَ التعبير عن تبليغهما).
– هذه النماذج صيغت بشكل متماسك يُعِين على بناء الوثيقة وصياغة العقد بمختلف أركانه (دون نسيان أو إهمال لأحدها أو بعض منها) ، زيادة على الترتيب الدقيق لعناصر العقد وبياناته الجوهرية (وهو ما يساعد على حفظ العدل الموثق لتلكُم العقود دون بتر لبعض عناصرها (يمكن تشبيه المسألة بالمختصر الفقهي في شكل نموذج للوثيقة) .
– أرجو أن يطلع المهتمُّون على تلكم النماذج أولا ويعوا ما فيها من فِقهٍ وإتقان (فرُبَّ كلمةٍ وحيدة سقطت من الوثيقة أبطلتها وجعلتها والعدمَ سواء)، وكما يُقال ” الحُكْمُ على الشيء فرعٌ عن تصورهِ “…. (وإذا فسدت المقدمات فسدت الخُلاصات).
– إن العدل الموثق في عمله يرتكز على آليتين محوريتين اثنتين : الأولى فحصُ العقود و الشهادات المدلى بها إليه وتقييمها ووزْنُها بموازين الشرع والقانون … فأنَّى للعدل أن يميز بين صحيحها من باطلها وبين غثها من سمينها..إن لم يكنْ له سابقُ اطلاع على طرُق التوثيق والقوانين وقواعد الفقه التي كانت تحْكمُ تلكم الوثائق إبان نشأتها .. (إن المخجل أننا لن نستطيع حتى قراءتها و فكَّ طلاسمها إن حررت بالأسلوب وبالخطوط والذيْن تعلمون درجة استشكالِهما حتى غدتْ أقربَ إلى الترميز منها إلى الكتابة ….) .
بعد قطع هذه المراحل والعقبات الكأداء تأتي المرحلة الثانية التي هي مرحلة تحرير العقد الجديد (آنذاك انظُرْ لنفسك أتتبعُ أم تبتدع …) .
– بطبيعة الحال تلكم النماذج تحتاج إلى عمل جبار من التحيين واليقظة في دراستها وفرز العقود التي لا زالت متداولة إلى يومنا هذا عن تلك التي نُسِخت بقوانين لاحقة أو عُدِّلت أو التي اضمحلت بتحول الأعراف المجتمعية عن طلب توثيقها أو التي انتقل الاختصاص في إنشائها إلى جهات أخرى (كالخبراء والأطباء…) .
فمثلا تضاف إليها – أقصد النماذج القديمة – وجوبا ما فرضته القوانين الجديدة للتوثيق وغيره ومن ذلك : ديباجة الوثيقة .. وكذا سائر البيانات و الأذون والوثائق المتطلبة في إجراء بعض العقود والمعاملات (كأذون توثيق الزواج والطلاق …والشهادات والرخص الإدارية ……)؛ بل إنه حتى بعض المقتضيات التي انتفى العمل بها حاليا لا بد للعدل الموثق أن يحيط بها علما (وهذا موضوع مقال قادم بإذن الله ) .
* إن أكثر ما أخشاه هو أن تتنقل الرسوم ” المبتكرة ” بين الأيادي حتى تقعَ في يد محام أو قاض متمرس متضلع في الفقه المالكي وأحكامه ، فيكشِفُ (بعين الخبير) عورة الشهادة ويُظهر نقائصها ويبطل حكمها ..
أنا لست عدُوا للتجديد و التحيين والابتكار، بل ذلك مطلوبٌ ومفروض ، لكن يجب أن يؤسَّسَ على العلم ولا يُصادم أحكامَ فقهٍ توطدتْ أركانُه منذ مئات السنين .. (طبعا ما لم يحسِم قانونٌ مُحْدَثٌ في مسألةٍ من مسائل ذلكم الفقه) ، فحَيَّا على الاجتهاد على أن تمْلِكوا أدواتِه أولا .. ( فكمْ مِن عدلٍ موثق زلت قدمُه وخابَ سعيُه حين خاض في ساحة التجديد والتحديث بغير سلاحٍ ولا هُدى ولا كتابٍ منير.. فأخرجَ مولودا مُشوَّها .. (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) .
فمن عزَمَ مِنكم على التحديث والابتكار (وأنْعِمْ به من عزمٍ وقصد)، فلا أقلَّ من أن يَعرض منتوجَهُ الجديد على أهل العلم والصنعة من زملائه وشيوخه للتداول والنقاش بشأنها … بل لِم لا تتبنى الدواوين الجماعية للعدول (أو حتى المجالس الجهوية) عبْرَ اجتماعات دورية لها إصدارَ تلكم النماذج المبتكرة باجتهادٍ جماعي تنعدم فيه أو تقِل احتمالات الخطإ .. (خاصة في ما تعلقَ بالأصناف الجديدة من العقود وسائر المعاملات المُحدَثة التي لم تنلْ حظَّها بعدُ من البحث والتمحيص والنظر الفقهي ) .
أخيرا أشير إلى أن ما بسطتُه ليس بِدعاً من القول ، وإنما هو ديدن جميع العدول الموثقين الممارسين حاليا ، فالتطوير سنة مؤكدة على العدل الموثق بل فريضة قائمة ، وما العلمُ إلا تحصيلُ قديمٍ وإنتاجُ جديد .. (لكِنْ لِمَنْ ملكَ أدواتِه وإلا هلكَ وأهلك) .
هذا والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين .