من غرائب هذا العصر وعجائبه: أن يتصدى في مجتمعات مسلمة إلى المطالبة بتسوية الأنثى بالذكر في الإرث، مع أن هذه قضية محسومة في الشرع، ومبينة في النصوص القطعية بما لا يجوز معه نقاش أو جدل. والأغرب من ذلك والأعجب: أن تجد مثل هذه الصيحات مرتعها في المغرب المسلم الذي عرف منذ الفتح الإسلامي بحبه للإسلام، وتمسكه بقيمه، ودفاعه عن حرماته وثوابته وقواطعه.
إن أصول نظام الإرث هي من قطعيات الشريعة، وهي داخلة فيما يسميه الفقهاء بالمقدرات الشرعية التي لا مجال فيها للرأي والاجتهاد؛ لأن النصوص الشرعية بينتها وفصلتها وقررت أحكامها على وجه لا يختلف فيه عالمان، ولا يتنازع فيه عاقلان.
ومن أمهات هذه الأصول التي يقوم عليها نظام الإرث: المفاضلة بين الذكر والأنثى المعبر عنها بقوله تعالى: “للذكر مثل حظ الأنثيين“.
فهذه المفاضلة مقصودة من الشرع ومطلوبة الفعل من جهة، ومن جهة ثانية فهي عين العدل، لأنها مبينة على أسباب وعلل توجبها عقلا وطبعا، فضلا عن أنها توجبها شرعا.
ومن جهة ثالثة فهذه المفاضلة لا تنافي مبدأ المساواة وتقررها على مستوى أوسع وأعمق.
وفيما يأتي تفصيل لهذه الجهات الثلاث:
أولا: المفاضلة بين الذكر والأنثى في الإرث مقصودة شرعا:
إن المفاضلة بين الذكر والأنثى في الإرث أمر قرره الله تعالى في شريعته وأمر عباده، وأوصاهم به، وفي آيات المواريث من سورة النساء ما يدل على ذلك ويؤكده، وقبل هذه الآيات المفصلة لأحكام الإرث ومقاديره جاء قوله تعالى مقررا حكمه العام في ذلك وعلى وجه الإجمال:
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}[النساء: 7]
ففي هذه الآية تقرير للقاعدة الكلية التي تضبط أحكام الإرث ومقاديره، فلكل من الرجال الوارثين والنساء الوارثات نصيبه الذي حدده الله تعالى وقدره بحكمته، وفرضه على عباده وأمرهم بالوقوف على حدوده، فالآية ناطقة صارخة بأن توزيع الإرث وقسمته بين مستحقيه أمر تولاه الله بنفسه، وقدره بعدله، وأنه ليس لأحد أن يتدخل في ذلك بتعديل أو تغيير أو تبديل.
لأن مقادير الإرث المذكورة في القرآن مقصودة بعينها، مطلوبة بذاتها، كما بينت وفصلت، وكما قررت وحددت، فقد ذكر ذلك في أول الآية وأكد في آخرها، أما أول الآية فقوله تعالى: “للرجال نصيب“، “وللنساء نصيب” وأما آخرها فقوله تعالى تأكيدا وتوثيقا: “نصيبا مفروضا” أي: معين المقدار لكل صنف من الرجال والنساء.
ثم بعد هذه الآية الناصة بإجمال على أن مقادير الإرث أمر توقيفي ليس لنا معه أن نتقدم أو نتأخر، جاءت الآيات المفصلة لأحكام المواريث ومقاديرها مصدرة بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء: 11] الآية.
والإيصاء هنا ـ كما ذكر الفقهاء المفسرون ـ هو بمعنى الإيجاب والفرض، بدليل تأكيده بقوله تعالى في آخر الآية: “فريضة من الله إن الله كان حكيما“.
ومعنى الآية أن الله تعالى يوصي عباده بالالتزام بما بينه لهم في ميراث أولادهم، والوقوف على حدود ما شرعه لهم في ذلك وفرضه عليهم، دون زيادة أو نقصان.
وبعد عرض أحكام الإرث وتوزيع مقاديره على الورثة المستحقين، جاء قوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}[النساء: 12]
وهو تأكيد لكون ما تقرر في آيات المواريث من مقادير وفروض، مقصودا من الله تعالى، مطلوبا من عباده أن يلتزموا به ويقفوا عند حدوده.
فتطبيق نظام الإرث والتقيد بما جاء فيه من المقدرات الشرعية، هو وصية الله إلى عباده، فعليهم أن يتعهدوها ويحرصوا على تنفيذها كما هي.
ثم جاء بعد ذلك الوعد بالثواب لمن التزم بتطبيق أحكام الإرث كما شرعها الله تعالى، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والوعيد بالعقاب لمن خالفها.
وهذا ما دلت عليه الآيتان الأخيرتان من آيات المواريث، وهما قوله تعالى:
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[النساء: 13، 14]
فقوله تعالى “تلك” إشارة إلى ما تقدم من أحكام المواريث وقسمتها. وسماها حدودا لكونها لا تجوز مجاوزتها، ولا يحل تعديلها.
وفي الآيتين ـ كما هو واضح بين ـ وعد ووعيد؛ وعد لمن التزم حدود الله في قسمة المواريث، واعتباره مطيعا لله ورسوله، ووعيد لمن خالف واتبع هواه، واعتباره عاصيا متعديا حدود الله.
وكل ذلك دال على أن قسمته المواريث كما وردت في القرآن الكريم ـ بما في ذلك المفاضلة بين الذكر والأنثى ـ هي حدود حدها الله تعالى يجب التقيد بها كما هي، لأن الله تعالى أرادها كذلك، وقصدها كذلك، وشاءها كذلك، فلا أفضل من ذلك.
وفي ختام سورة النساء جاء قوله تعالى في توريث الإخوة ـ أشقاء ولأب، ذكورا وإناثا ـ:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النساء: 176].
ففي صدر هذه الآية تأكيد لما سبق تقريره من أن أحكام الإرث توقيفية، وأن الله تعالى تولى أمرها بنفسه ولم يكلها لأحد: “قل الله يفتيكم في الكلالة“.
فالله تعالى هو الذي يفتي ويحكم ويشرع، ويقدر ويفرض لعباده.
والكلالة هي انقطاع الأصول والفروع، وفيها يرث الفصول وفي طليعتهم الإخوة الأشقاء والإخوة للأب، الذين تشملهم قاعدة: “للذكر مثل حظ الأنثيين“.
وقد ختم الله هذه الآية بقوله عز وجل: “يبين الله لكم أن تضلوا“؛
والمقصود بالتبيين: تبيين مقادير الإرث وكيفية توزيعه وقسمته كما تقدم في آيات المواريث، فقد بينه الله تعالى لنا حتى لا نصل بمخالفته.
وواضح من هذا أن هذه الأحكام مقصودة شرعا، ومطلوب من المكلفين أن يلتزموا بها كما هي دون تغيير أو تبديل، وإلا ضلوا طريق الشرع، وحادوا عن جادته.
ثانيا: المفاضلة بين الذكور والأنثى في الإرث هي عين العدل والحكمة
لقد تبين من خلال الآيات السابقات القاطعات أن أحكام الإرث، بما فيها المفاضلة بين الذكور والإناث، هي من شرع الله تعالى، الذي فرض ذلك وقدره، وأراده وقصده، وأمر عباده أن يلتزموه ويقفوا على حدوده، ومعلوم أن شرع الله كله عدل وحكمة، وحق ورحمة؛ لأنه تعالى هو الذي خلقنا، فهو الذي يعلم ما فيه مصالحنا ومنافعنا، وما فيه مفاسدنا ومضارنا: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14]
ومن هنا فإن المعترضين على المفاضلة، الداعين إلى نبذها، المطالبين بالتسوية بين الذكر والأنثى في الإرث، هم يتعالمون على الله، ويضاهون شرعه بهواهم، وفي أمثالهم قرر القرآن الكريم هذا السؤال الذي يرد الأمور إلى نصابها، والفروع إلى أصولها: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}[البقرة: 140]؟
وقد أجاب القرآن نفسه في غير ما آية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 216].
فالله تعالى هو الذي شرع أحكام الإرث وتولى قسمتها، بعلمه وحكمته، وعدله ورحمته، ولذلك جاءت آيات المواريث مذيلة بما يثبت ذلك ويؤكده، ففي آية توريث الأولاد والمفاضلة بين ذكورهم وإناثهم جاء قوله تعالى في ختامها: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء: 11]
فهذه المفاضلة حكم شرعه الله بعلمه، وفيها حكمة بالغة لعباده، علمها من علمها وجهلها من جهلها، والحكمة هي وضع الشيء في محله المناسب، فالمفاضلة ـ إذا ـ موضوعة في محلها المناسب، ولن تجد أنسب منها في الإرث أبدا.
ولأجل ذلك، وحذرا من أن يتعجل أحد ويستنكر هذه المفاضلة ونظائرها من أحكام الإرث جاء التذييل المذكور في آية توريث الأولاد {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء: 11].
وكذلك التذييل في آخر آيات المواريث التي جاءت متتابعة؛ وهو قوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}[النساء: 12].
فكل ما تقدم من أحكام المواريث بما فيه المفاضلة، هو وصية الله إلى عباده، وهو حكم الله الذي يعلم ما يفعل ويعلم ما يشرع لعباده، وهو فيما شرعه لهم حليم بهم ورحيم، فالرحمة بالناس والرفق بهم، والتيسير عليهم، وتمكينهم مما يصلح أموالهم، كل ذلك لا يلتمس إلا فيما شرعه الله لهم وأوصاهم به، لأنه تعالى هو العليم الحليم.
وفي آية الكلالة التي ذكرت فيها المفاضلة بين ذكور الإخوة وإناثهم، وهي آخر آية في سورة النساء، جاء التذييل فيها بقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النساء: 176]
فتبيين الله أحكام الإرث بما فيها المفاضلة، معلل بأن لا نضل ولا نزيغ عما شرعه لنا وأراده لنا وأمرنا به، وفي ذلك مصلحتنا وأمننا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، ولا خير فيما سواه من التشريعات البشرية المعارضة له، لأن الله الذي شرع لنا ما بينه في الإرث، هو بكل شيء عليم، ولا أحد من الخلق يعلم كل شيء، ومن هنا وجب التسليم لحكم الله والخضوع له والوقوف عند حدوده، لأن العليم بكل شيء هو الأحق بأن يتبع، والأولى بأن يطاع.
فإذن المفاضلة بين الرجال والنساء، وعدم التسوية بينهم في الإرث، هو التشريع الأعدل، والحكم الأكمل الأفضل، لأنه صادر عن الله تعالى العليم الحكيم الحليم، فمناقشة هذه القضية هي تطاول على الله وتعالم عليه ومكابرة في الحق الذي لا مرية فيه.
ثالثا: المفاضلة بين الذكر والأنثى في الإرث لا تنافي المساواة
قد يتبادر إلى الذهن أن توريث الرجل ضعف ما ترثه الأنثى، هو تفضيل للرجال على النساء، ومناقصة للمساواة التي هي مظهر من مظاهر العدل، وهذا غلط فادح وجنوح عن الحق؛ لأن حقيقة المساواة لا يصح تحديدها بالنظر إليها من زاوية واحدة، وقيمة المساواة لا يجوز تقديرها من جزئية من الجزئيات، أو حالة من الحالات، بل إن المساواة الحقيقية هي التي ينظر إليها من جميع الجهات، وتنطبق عليها كل المقاييس والاعتبارات؛ فإذا كان التشريع الإسلامي قد أعطى للرجل في الإرث أكثر مما أعطى للمرأة، فلأن الرجل هو المسؤول عن المرأة، المكلف بها، والمنفق عليها، والقائم على شؤونها، وهي دائما مكفولة منفق عليها، مرعية مصالحها، بنتا وزوجة وغير ذلك ..
وهذا داخل في عموم قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[النساء: 34]
فهذه القوامة وما تقتضيه من رعاية الحقوق، وحفظ المصالح، وجلب المنافع، ودفع المضار ودرء المفاسد، هي حقوق للنساء على الرجال، وواجبات على الرجال للنساء، وهي للنساء تشريف، وللرجال تكليف، وهذا هو الذي يسوغ أن يكون حظ الرجل من حظ المرأة في الإرث، لأنه هو الذي ينفق عليها في جميع الحالات، فما يرثه هو ينفق منه على نفسه وعلى زوجته وبنته وأمه وجدته وأخته وغيرهن ممن تجب عليه نفقتهن، أو ممن كن في كفالته، وتحت وصايته ورعايته.
وأما ما ترثه المرأة فكله خالص لها؛ لا حق لأحد فيه من قرابتها، لأن نفقتهم لا تجب عليها إلا أن تطوع بها.
وهذه هي عين المساواة، لأنها تراعي التوازن بين الطرفين في جميع الأمور، وتستحضر كل الاعتبارات، وهذه هي المساواة التي يقوم بها العدل، وتستقيم بها شؤون الحياة، لأنها مساواة روعي فيها النسق العام للحقوق والواجبات، وقيست بالرؤية الشمولية، والنظر إلى المنظومة الكلية التي تدور في فلكها الأحكام، وتتحرك في مجرتها الوظائف والمهام.
ولقد حدث في عهد النبوة أن بعض المؤمنات جرٌهن فضولهن إلى التساؤل عن إرث الرجال أكثر من النساء، ولم لم يكن إرث النساء أكثر، وهن ضعيفات، والرجال أقوى؟
وتمنى بعضهن لو كان أنصباء النساء كأنصباء الرجال.
فنزل في ذلك قوله تعالى حاكما حاسما قاطعا: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32]
وقد نقل القرطبي عن عبد الله بن عباس أن المراد بذلك: الميراث، والاكتساب على هذا بمعنى الإصابة للذكر مثل حظ الأنثيين، فنهى الله عز وجل عن التمني على هذا الوجه، لما فيه من دواعي الحسد، ولأن الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم، فوضع القسمة بينهم على التفاوت، على ما علم من مصالحهم.
وإذا كان هذا الفضول وهذا التمني قد حسم بالشرع، وانتهى فيه المؤمنون والمؤمنات إلى حكم الله ورسوله، فإنه في زماننا هذا ومنذ قيام العصر الحديث، قد صار ثورة على الشريعة وتمردا على أحكامها وقيمها ومبادئها، تأثرا بفكر الغرب وانبهارا بحياته المدنية، ورحم الله الطاهر ابن عاشور الذي قال في معرض شرحه للآية السابقة:
“وقد أصبح هذا التمني في زماننا هذا فتنة لطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة؛ مما جر أمما كثيرة إلى نحلة الشيوعية، فصاروا يتخبطون لطلب التساوي في كل شيء، ويعانون إرهاقا لم يحصلوا منه طائل.
ليس المساواة في الحقوق هي أن يرث النساء مثل ما يرثه الرجال، بل هي أعمق من ذلك وأوسع، وأكمل وأجمع، ولو كانت بمجرد التسوية بين النساء والرجال في الإرث، للزم أن تستوي المرأة مع الرجل في دفع المهر، ولزوم النفقة، ووجوب الحماية ـ حماية النفس والعرض ـ وانتقال النسب إلى الأولاد، وغير ذلك مما لا يستطيع أحد أن ينكر اختصاص الرجل به.
وهذا ما يجب التنبيه عليه: أن الداعين ـ أو الداعيات ـ إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، لا يعرجون على الحالات التي سوى فيها التشريع الإسلامي بين الإخوة والأخوات والآباء والأمهات وغير ذلك من الحالات التي تتكافؤ فيها الحقوق والواجبات، ولا ينتهض فيها ميزان المفاضلة، مثل أن يرث كل من الأب والأم السدس إذا كان معها فرع ذكر. ومثل التسوية بين ذكور الإخوة للأم وإناثهم في الإرث منفردين ومتعددين ومختلطين.
ومثل التسوية بين ذكور الإخوة الأشقاء وإناثهم في فريضة مشتركة .. وغير ذلك من الحالات التي تستوي فيها الأعباء والتبعات، وتتكافؤ فيها الحقوق والواجبات، فحينئذ يسوى بين الذكور والإناث، ويعدل عن قانون المفاضلة لتخلف علته، وقيام علة التسوية والتكافؤ.
وبعد؛ فإن توريث الذكر مثل حظ الأنثيين هو حكم الله الأعدل الأحكم، الأرشد الأقوم، وهو الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى به صحابته رضوان الله عليهم، وهو الذي أجمع عليه العلماء، وأطبقت عليه الأمة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، فالمطالبة بالتسوية بين الرجل والمرأة في الإرث، هي تمرد على الشريعة، وخروج عن ربقتها، والمطالبة بعرض أحام الإرث ـ وهي قطعية ـ على نقاش مجتمعي، هي تطاول على الله تعالى وعودة بالناس إلى الجاهلية الأولى أو إلى أسوأ منها. ثم ماذا يغني النقاش المجتمعي في أحكام قطعية ثابتة راسخة رسوخ الجبال الرواسي؟ وهب النقاش المجتمعي أسفر عن نبذ المفاضلة وإحداث التسوية. فهل المشرع هو الله أم هو المجتمع؟ ثم حاش للمجتمع المغربي الأصيل أن يخوض في مستنقع هذا النقاش الآسن.
فالمغرب بلد مسلم، ونساؤه أحرص على اسمهن من رجاله، وأسرع إلى التسليم بأحكام الشريعة، وأرضى بما فرضه الله لهن من الحقوق، وأوقف على حدود الله، وأبعد عن انتهاك حرماته، هذا هو تاريخهن وهذا واقعهن، ومن ادعى غير ذلك فعليه الدليل، ولن يجد له سبيلا.
ثم أو كلما كانت أحكام الدين مخالفة للأهواء نعتت بأنها قمع للنقاش وإغلاق للاجتهاد وتغييب للأدلة العقلية؟
فهل المشروعية يقررها الشرع أم يقررها النقاش؟!
وهل الشرع قاض على العقل أم العكس؟
وهل الاجتهاد مرتع لذوي الأهواء، أم هو من اختصاص العلماء والفقهاء؟! ألا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]
منقول عن صفحة الدكتور محمد الروكي
Leave A Comment