الأستاذ عثمان الشعابتي
مقدمة:
الحمد لله الذي نستمنح منه المنحة و نستدفع به المحنة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المستهداة.
وبعد؛ فإن خطة العدالة هي المهنة الأجدر أن نسميها مهنة التوثيق، تجعل كل من يمارسها يعتز ويفتخر بها لأنها تجسد كل الخصال الرفيعة، صناعة جليلة، خطة نبيلة شريفة وبضاعة غالية منيفة ، تعددت تسمياتها والأوصاف التي اكتسبتها وكلها تعبر عن شرف المقام ونبل الغاية وطهارة الوسيلة وتمثلت جميع الدول هذه المفاهيم وجسدتها أقلام العلماء والفقهاء.
فلا عجب أن يصفها البعض بأنها من أجل وأشرف المهن القانونية المنظمة، تساهم في توفير العدالة الوقائية، وتشارك الجهاز القضائي في تحقيق العدل من خلال تمكينه من وسائل الإثبات التي بها يتمكن من فض النزاعات والفصل في الخصومات.
ويعتبرها البعض الآخر بأنها نظام متكامل البنية، يستمد قوته وأصالته من المرجعية الإسلامية، وهويته الوطنية والحضارية، ويتمتع بشخصيته المتميزة، لكونه تاما وشاملا لسائر المعاملات والتصرفات التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية، لذلك كان الملجأ الذي يطمئن إليه المغاربة في توثيق سائر معاملاتهم المتعلقة بالأحوال الشخصية والميراث، وسائر التصرفات المدنية والعقارية والتجارية وغيرها…
لذلك فإن الحديث عن وضعية التوثيق العدلي بالمغرب، يكتسي أهمية قصوى نظرا للدور الفعال الذي يقوم به العدول في تحصين حقوق الأفراد وتأمين ركائز السلم القانوني والعدالة الوقائية داخل المجتمع، ناهيك عن دورهم في مجال تحصيل الديون العمومية ومكافحة غسل الأموال.
كما لا تخفى أهمية هذا المرفق العمومي على مستوى الضمانات القوية التي يقدمها للمتعاقدين، والحمايات اللازمة التي يوفرها للمتقاضين، والخدمات الجليلة التي يقدمها للقضاء، حيث يمهد الطريق أمامه ليحكم بين الناس بالحق، ويبت في النزاعات التي تحدث بينهم.
وإذا كانت مهنة التوثيق العدلي على هذا القدر من الأهمية، فإنها أصبحت تعيش أزمة حادة وخانقة، وباتت تواجه تحديات مصيرية فرضتها عولمة شرسة تتميز بتنافسية حادة اكتسحت كل الميادين المرتبطة بالاقتصاد، وما واكبها من تطورات تكنولوجية ألقت بآثارها على أداء العدل .
ويرجع تأزم وضعية التوثيق العدلي بالمغرب إلى المنظومة التشريعية بالأساس، فالقانون 03.16 لم يعد يساير التطورات التي تعيشها مهنة التوثيق العدلي، وأصبحت العديد من مقتضياته إن لم نقل جميعها في حاجة ماسة إلى مراجعة شاملة وعميقة تستهدف توفير ضمانات الاستقلالية والنزاهة والتجرد ، وهو ما أجمع عليه العدول أهل الدار علما بأن شهادة ابن الدار ليست مردودة لقادح المجاملة، لأنها ليست بشهادة مجاملة، وإنما شهادة شاهد من أهلها ممن خبر صنعة التوثيق ورصد المثالب والنواقص، والشيء نفسه أكدته الجهة الوصية واعترفت بذلك عند إعلانها الإصلاح الشامل لمنظومة العدالة بالمغرب .
أمام هذا الوضع تعالت أصوات عدول المغرب، ونادت بضرورة إصلاح مهنة التوثيق العدلي والاعتراف باستقلاليتها بشكل يستجيب لمقتضيات العصر وللمواثيق والمعايير الدولية، ورفع جميع أشكال الوصاية والحجر على الممارسين لها، وذلك في اتجاه بلورة تصور شامل لمهنة التوثيق العدلي على نحو يصون كرامة العدل ويحمي حقوق المتعاقدين .
وفي هذا الإطار عملت الهيئة الوطنية لعدول المغرب على إعداد مسودة مشروع لتعديل وتغيير القانون 16.03، من أجل صياغة قانون ينظم المهنة بشكل عميق وشامل يتجاوز كل النقائص التي أظهرها التطبيق العملي، هذه المسودة التي مازال النقاش مفتوحا بشأنها ولم يتم التوافق على صيغة نهائية بشأنها لحد كتابة هذه الأسطر.
ولبسط تأملاتنا حول وضعية مهنة التوثيق بالمغرب: إشكالية الاستقلال ومتطلبات الإصلاح، فإنه يحق لنا أن نتساءل عن ما هي المعيقات والعراقيل التي تحول دون النهوض باستقلالية مرفق التوثيق العدلي بالمغرب؟ وما هي السبل والوسائل التي من شأنها أن تحقق هاته الاستقلالية؟ وأين تتجلى أبرز متطلبات إصلاح مهنة التوثيق العدلي؟
للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، يقتضي تقسيم هذا الموضوع إلى محورين أساسيين وفق الشكل التالي:
المحور الأول: استقلالية مهنة التوثيق العدلي: المعيقات والبدائل
المحور الثاني: متطلبات إصلاح مهنة التوثيق العدلي بالمغرب
المحور الأول
استقلالية مهنة التوثيق العدلي: المعيقات والبدائل
تعد مسألة استقلالية مرفق التوثيق العدلي من أهم المسائل التي عرفت جدالا واسعا في أوساط المهنيين من جهة ، والباحثين والمهتمين من جهة أخرى ، باعتبارها آلية تروم تحقيق مقومات الأمن التعاقدي واستقرار المعاملات.
ويقصد باستقلالية مرفق التوثيق العدلي، عدم وجود أي تدخل مباشر أو غير مباشر في عمل العدول بالشكل الذي يمكن أن يؤثر في مهامهم التوثيقية المرتبطة بتوفير العدالة الوقائية، كما يعني أيضا رفض العدول أنفسهم لهذه التأثيرات والعراقيل والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم.
فاستقلال مهنة التوثيق العدلي يعتبر مؤشرا رئيسيا من مؤشرات التنمية الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، فهو مدخل فعال لحماية الحقوق وصيانتها ووسيلة أساسية لترسيخ مقومات الأمن التعاقدي واستقرار المعاملات، وسيادة الثقة في القانون والمؤسسات والتشجيع على الاستثمار.
ولا يمكن اعتبار مطلب استقلالية مرفق التوثيق العدلي مطلبا نرجسيا أو امتيازا للعدول، وإنما هو امتياز للمتعاقدين والمتعاملين مع هذا المرفق العمومي، ووسيلة لتحقيق مقومات الأمن التعاقدي واستقرار المعاملات، فهذان الأخيران -الأمن التعاقدي واستقرار المعاملات- لن يتحققا إلا بالاستقلال التام والفعلي لمهنة التوثيق العدلي.
لذلك فإن استقلالية مرفق التوثيق العدلي، أصبح مطلبا رئيسيا أجمع عليه جميع الممارسين والباحثين والمهتمين، باعتباره يشكل مدخلا أوليا في تأهيل وإصلاح مهنة التوثيق العدلي بالمغرب، بالرغم من العراقيل والمعيقات التي تعترضه وتحول دون تحقيقه، الشيء الذي يستدعي البحث عن البدائل والوسائل التي من شأنها أن تحقق استقلالية هذا المرفق الخدماتي.
من خلال هذا التقديم سنحاول إبراز أهم معيقات استقلالية مهنة التوثيق العدلي، مع بيان طرق معالجتها، وذلك وفق الشكل التالي:
أولا- معيقات استقلالية مرفق التوثيق العدلي
ثانيا- آفاق تحقيق استقلالية مرفق التوثيق العدلي
أولا- معيقات استقلالية مرفق التوثيق العدلي:
يعرف مرفق التوثيق العدلي العديد من الصعوبات والعراقيل التي تعيق وتحد من استقلاليته، وتحول بالتالي دون ارتقاء هذا المرفق الخدماتي وقيامه بدوره الأساسي في حفظ الحقوق وصيانتها وتأمين المعاملات واستقرارها.
ورغم تسليمنا بوجود أكثر من معيق يمس استقلالية التوثيق العدلي، فإنه نظرا للدور الثانوي لبعض المعيقات آثرنا أن نركز على ثلاث معيقات أساسية تضرب في الصميم استقلالية مرفق التوثيق العدلي بالمغرب، وهي كالتالي:
1- خطاب القاضي
2- التلقي الثنائي
3- عملية النسخ
1- خطاب القاضي المكلف بالتوثيق:
يعتبر خطاب القاضي المكلف بالتوثيق من أبرز العراقيل التي تعيق استقلالية مرفق التوثيق العدلي بالمغرب، باعتباره وسيلة تقليدية وعتيقة تحول دون أداء العدل لمهامه التوثيقية على الوجه المتطلب قانونا، لذلك وصفه البعض بأنه “الداء الخبيث” الذي أصيب به جسم التوثيق العدلي لذا يتعين البحث عن الدواء؟؟؟
فإذا كانت غاية المشرع المغربي من إقراره هذا الخطاب هو تحقيق سلامة المحررات العدلية وضمان حقوق المتعاقدين، ألم يكن حري به ومن باب المساواة أن تخضع العقود الصادرة عن الموثق لهذه التأشيرة أيضا؟ هذا إذا استحضرنا أن تكوين العدل أضحى اليوم يعادل تكوين الموثق إن لم نقل يفوقه بكثير خصوصا فيما يتعلق بشروط الترشيح والصلاحيات التوثيقية الممنوحة لكليهما ؟ وإذا كانت هذه الرقابة لازمة للمحررات العدلية، فإنها يجب أن تكون للقانون لا للقاضي؟ وهل حققت هذه الرقابة الغاية المتوخاة منها؟
إن الحاجة إلى الاستقلالية لا ينبغي النظر إليها بمعيارية، ولكن بتمعن واستحضار للمسؤولية التي يتطلبها تدبير مرفق التوثيق العدلي، فإشراف قضاة التوثيق على عمل العدول قبل أن يكون مساسا بالاستقلالية هو ضرب من الوهم !!! فكيف يتأتى للقضاة الإشراف على عمل العدول في غياب أي تكوين لهم في مجال التوثيق؟ وكيف لهم الجمع بين إصدار الأحكام ودراسة الملفات وبين المراقبة اليومية للمحررات العدلية؟
بل الأكثر من ذلك، فقد أبان الواقع العملي على أن خطاب القاضي المكلف بالتوثيق يساهم بشكل خطير في عرقلة مسيرة المحرر العدلي ويثير إشكالات عملية كثيرة نجد من بينها أن :
– الخطاب يعتبر سببا مباشرا في طول مدة إنجاز المحرر العدلي، فلا يعقل أن يحرر العقد العدلي ويبقى في مكتب القاضي وتحت سلطته مدة شهر وما يزيد عليها، في الوقت الذي ينجز فيه العقد التوثيقي في ظرف يوم أو يومين على الأكثر؛
– الخطاب يؤذي إلى تغيير اتفاقات الأطراف، لأن القاضي أحيانا لا يروقه أسلوب المحرر فيلزم العدل بإضافة كلمة أو جملة ليست من إملاء المتعاقدين، وهذا ما يعتبر تزويرا وخرقا سافرا لمقتضيات الفصل 402 من قانون الالتزامات والعقود؛
– الخطاب يؤذي إلى بخس حقوق المتعاقدين وضياعها بسبب امتناع القاضي عن الخطاب. وكثيرة هي الحالات التي يرفض فيها قضاة التوثيق الخطاب، إما بسبب فهمهم الخاطئ للنصوص القانونية أو تعسفا أو جهلا منهم لضوابط التوثيق العدلي أو احتكاما لمزاجيتهم؛
– الخطاب إجراء تقليدي يتنافى مع معطيات العصر الحديث في مجال التوثيق، ففي الوقت الذي يتطلع فيه العدول الشباب إلى مواكبة عصر السرعة والتجديد يفاجئون بإجراءات شكلية لا فائدة منها، مصحوبة بتعسفات غير مبررة تثقل كاهلهم وتقلق راحتهم وتمس حقوق المتعاقدين.
2- التلقي الثنائي للعقود:
إلى جانب التبعية لمؤسسة قضاء التوثيق والتي قوت مركز القاضي المكلف بالتوثيق على حساب مركز العدل الموثق، هناك معيق آخر لا يقل أهمية عن خطاب القاضي ويتعلق الأمر بالتلقي الثنائي للعقود ، وذلك بالنظر إلى تعدد الإشكالات والعراقيل التي يطرحها.
إن التلقي الذي يتم بعدلين اثنين وفي وقت واحد وفي مكان واحد، لا يتصور أن يقع في آن واحد والعدلان موجودان في مكانين مختلفين خصوصا مع التطور الهائل في الجانب التقني في ظل ما أصبع يسمى بالتعاقد الإلكتروني، لأن مقصود المشرع من تعبيره بـ “آن واحد” أن يتحد مجلس العدلين المتلقين بطريقة مباشرة لا بواسطة البث الهوائي أو الأرضي أو غيرهما…، ففي كل العقود والاشهادات لابد أن يكون تلقيها بعدلين اثنين وفي مجلس واحد تحت طائلة الوقوع في مخالفة قانونية .
ومن أهم الإشكالات القانونية التي يطرحا التلقي الثنائي، مسألة تحديد المسؤولية الجنائية للعدل الشاهد أو “العاطف” في الحالة التي يتابع فيها العدل المتلقي للشهادة، حيث يتم اعتباره مسؤولا جنائيا مع رفيقه بمجرد وضع إمضائه عليها، والحال أن العدل الموثق قد تلقى العقد أو الشهادة وحده من الأطراف الشيء الذي يلحق ضررا بالعدل الثاني، لذلك ينبغي رفع المساءلة الزجرية عن العدل الشاهد، واعتبار توقيعه على العقد مجرد قرينة بسيطة على أنه حضر مع العدل الموثق مجلس العقد .
وحتى في الحالة التي سمح فيها المشرع بالتلقي الفردي، نجده قيد العدل بالحصول على إذن من القاضي قبل أن يتلقى العقد بمفرده، أو إشعاره بذلك داخل أجل ثلاثة أيام من تاريخ التلقي في حالة تعذر الحصول على الإذن ، الشيء الذي يدفع إلى التساؤل عن الغاية من سن هذا الإذن؟ وما جدوى إشعار القاضي بالتلقي الفردي داخل أجل الثلاثة أيام؟
لذلك، فإنه نظرا للمشاكل التي يطرحها التلقي الثنائي للعقود، فقد تم تعطيله عمليا من طرف العدول، ولا يقصد بالتعطيل أن العدلين إما أن يتلقيا العقود أولا يتلقيانها مطلقا، وإنما المقصود هو أنه في الحالة التي يتم فيها التلقي انفراديا، فإن العقد يحرر بطريقة تفيد أن التلقي قد تم ثنائيا ويرتب بالتالي كل آثار التلقي الثنائي .
أمام هذا الوضع، فإننا ندعوا إلى جانب بعض الباحثين بضرورة مراجعة قواعد تلقي العقود العدلية، وإقرار التلقي الفردي وفق نظام نسميه نظام “الموثق العدلي” لا وفق نظام الكاتب بالعدل السائد حاليا بالمشرق.
3- عملية نسخ العقود:
تبرز عدم استقلالية مرفق التوثيق العدلي أيضا في العلاقة التي تربط العدل بالناسخ، ذلك أن القانون 16.03 ألزم العدل قبل تقديم العقود المحررة من طرفه إلى القاضي المكلف بالتوثيق للخطاب عليها، أن يتم إيداعها بمكتب النساخ لتضمينها في كنانيش معتادة ومتعددة وبطريقة تقليدية وعتيقة ، وهي العلاقة التي زادت من حدة الوصاية والتحجير على هذا المرفق الخدماتي.
لذلك، فإن عملية نسخ العقود لم تعدد تتماشى مع تطوير مهنة التوثيق العدلي، خصوصا في الوقت الذي باتت فيه المهنة تنشد الاستقلالية والنزاهة والبعد عن السيطرة المطلقة كسائر المهن القانونية والقضائية المماثلة لها.
وفي هذا الإطار أخرجت وزارة العدل والحريات تقريرا حول مهنة النساخة ، وعملت من خلاله على تشخيص وضعية النساخة بالمغرب وتطرقت للعلاقة المتوترة بين النساخ والعدول والاقتراحات المقدمة من الطرفين وخلصت إلى تصورين:
التصور الأول يتحدث عن إبقاء مهنة النساخة، لكن بتغيير القانون المنظم لها والقوانين ذات الصلة، غير أن هذا التصور أصبح غير مقبول من طرف كل الفاعلين والمهتمين بالشأن التوثيقي، وعلى رأسهم الرابطة الوطنية للنساخ والهيئة الوطنية للعدول.
والتصور الثاني يقوم على إعادة النظر في وجود هذه المهنة وإلغائها بصفة نهائية، مع تغيير أساليب عمل العدول من خلال تبني النظام المعلوماتي في تضمين الشهادات العدلية واستخراج النسخ منها، مع إيجاد حلول مناسبة لوضعية النساخ، ويبقى هذا التصور الحل الأمثل والمناسب لبلوغ أهداف ومرامي استقلالية مهنة التوثيق العدلي بالمغرب.
إذا كانت هذه أهم المعيقات التي تحول دون تحقيق استقلالية مرفق التوثيق العدلي بالمغرب. فما هي الآليات والبدائل الحقيقية التي ينبغي الاشتغال عليها للنهوض باستقلالية هذا المرفق العمومي؟ هذا ما سنجيب عليه في النقطة الموالية.
ثانيا- آفاق تحقيق استقلالية التوثيق العدلي :
إذا كان الوضع المهني لمرفق للتوثيق العدلي يعرف مجموعة من العراقيل والمعيقات التي تحد من استقلاليته، فإن وضع إجابات وتصورات لا ندعي أنها الحلول الوحيدة لعلاج الأزمة التي يعاني منها هذا المرفق الخدماتي، لكن هي تصورات وسبل يجمع أغلب المهتمين بشأن التوثيق العدلي على أنها السبيل للوصول إلى توثيق نزيه ومستقل قادر على تحقيق مقومات الأمن التعاقدي واستقرار المعاملات. وتتحدد هذه الحلول والتصورات فيما يلي:
1- الحد من تعدد المتدخلين في مهنة التوثيق العدلي
2- إقرار نظام رقابة قانوني
3- إلزامية التكوين القانوني والتأهيل المهني
1- الحد من تعدد المتدخلين في مهنة التوثيق العدلي:
إن تحقيق استقلالية مرفق التوثيق العدلي لا يستقيم إلا عن طريق الحد من تعدد المتدخلين في إنشاء المحرر العدلي، بدءا من القاضي المكلف بالتوثيق ومرورا بالناسخ وانتهاء بالعدل “العاطف”. هذا ما سنحاول سبر أغواره من خلال النقط التالية:
أ- فك الارتباط مع قضاء التوثيق
ب- اعتماد نظام التلقي الانفرادي
ج- إيجاد وسائل بديلة لحفظ العقود
أ- فك الارتباط مع قضاء التوثيق:
إذا كانت تبعية العدول للقضاة المكلفين بالتوثيق تعتبر العائق الأكبر الذي يؤثر في مسار إصلاح مرفق التوثيق العدلي واستقلاليته، فإن السؤال الذي يطرح بإلحاح من طرف الباحثين والمهتمين بهذا المجال يتعلق بمدى إمكانية الاستغناء عن مؤسسة القاضي المكلف بالتوثيق؟ خصوصا بعدما تغيرت الظروف وصار العدول والقضاة يتقاسمون ثقافة قانونية مشتركة ويحملون درجات علمية متساوية، لذلك لم يعد لخطاب القاضي الذي يضفي الصبغة الرسمية على الوثيقة العدلية أي معنى ولا جدوى، وإذا كانت الرقابة الشكلية لازمة على المحررات العدلية فيجب أن تكون للقانون وليس للقاضي .
لأجل ذلك، أرى بأنه آن الأوان بفك الارتباط وقطع الصلة القائمة بين مؤسسة قضاء التوثيق ومهنة التوثيق العدلي، وضرورة رفع الوصاية والتحجير على الوثيقة العدلية واستقلالها عن خطاب القاضي المكلف بالتوثيق، وأن يتحمل العدل مسؤوليته الكاملة بخصوصها كما هو الشأن بالنسبة للموثق الذي تعتبر وثيقته رسمية من غير خطاب القاضي عليها.
ب- اعتماد نظام التلقي الانفرادي:
بناء على ما يتعلق بعنصر التلقي الثنائي من إشكالات، فإنه بات من الواجب على المشرع المغربي اعتماد نظام للتوثيق العدلي يقوم على التلقي الانفرادي للعقود كقاعدة عامة، نظام يعطي الحق وبقوة القانون للعدل الواحد في تلقي جميع الاتفاقات والمعاملات المالية، واستثناءا الإبقاء على إمكانية التلقي الثنائي أو بحضور شاهدين مجلس العقد في المعاملات الأسرية تحت طائلة البطلان . على أن يشترط في الشاهدين أن يكونا مغربي الجنسية، كاملي الأهلية، لهما إلمام بالقراء والكتابة، ولا مصلحة لهما في العقد المطلوب توثيقه، ولا تربطهما بالمتعاقدين أو العدل الموثق أية صلة قرابة أو مصاهرة لغاية الدرجة الرابعة .
فإذا كان الموثق يخول له القانون مهمة توثيق العقود بشكل منفرد ، فإن العدل اليوم وما أبان عنه من مهنية عالية، ومن أمانة وجدية في أداء مهامه التوثيقية، أولى بأن يحرر من إشكالية التلقي الإزدواجي، خاصة تلقي العقود والمعاملات المالية. وإذا كانت بعض العقود الأسرية كالزواج توجب الثنائية في التلقي فإن ذلك لا يسري على توثيق مختلف المعاملات المالية .
فالعدل أجذر من غيره في توثيق العقود والشهادات بشكل انفرادي دونما حاجة للثنائية في التلقي، وإذا كانت الحداثة والعصرنة تفرض نفسها في واقع العدول، فإنه يجب التعامل مع هؤلاء المهنيين بنفس منطق التعامل مع غيرهم، خاصة وأن ما كان عليه العدول من قبل لم يعد عليه حال العدول اليوم، الذين تحصل أغلبيتهم على شواهد عليا في مختلف تخصصات القانون، واكتسبوا معارف ومدارك علمية أهلتهم لأداء مهامهم عن جدارة واستحقاق.
ج- إيجاد وسائل بديلة لحفظ العقود:
يقتضي أيضا تحقيق مبدأ استقلالية مهنة التوثيق العدلي، البحث عن وسائل وآليات متطورة وبديلة لحفظ العقود وتسليم نسخ ونظائر منها، وتجاوز الأسلوب التقليدي لحفظ العقود العدلية المتمثل في التضمين والنسخ اليدوي .
لذلك، فإن الأمر يتطلب اعتماد نظام مزدوج للحفظ معلوماتي وورقي في آن واحد، ضمانا للجودة والفاعلية والدقة والسرعة في الانجاز، يقوم النظام المعلوماتي على الحفظ الالكتروني لأصول العقود والوثائق الملحقة بها بمكاتب التوثيق العدلي شريطة أن يكون له نسخا متعددة بالمجالس الجهوية والهيئة الوطنية للعدول تحت طائلة المسؤولية، والثاني مكمل له يقوم على الحفظ الورقي للعقود إما في سجلات خاصة أو في الأوراق المحرر فيها العقود والاتفاقات.
واعتبارا لأهمية هذا المقترح فإنه سيبقى حبر على ورق، ما لم يتم ترسيخ التزام العدل بحفظ أصول العقود والوثائق الملحقة بها التي تثبت هوية المتعاقدين، للرجوع إليها عند الحاجة تحت مسؤوليته.
أما بالنسبة لتسليم نظائر ونسخ العقود، فإنه يجب التأكيد على أن تسليمها يوكل إلى العدل أو من ينوب عنه في المكتب في حالة غيابه أو عند توقيفه أو عند وجوده في حالة التنافي، وذلك طبقا لقواعد وضوابط يتم تحديدها بنص القانون.
ومن الضوابط القانونية التي يجب أخذها بعين الاعتبار، التأكيد على أحقية الأطراف وورثتهم ووكلائهم – باستثناء الأغيار– في الاطلاع على الأصول وملحقاتها وأن يتسلموا نظائر منها، مع تبيان مسطرة تحريرها ومطابقتها لأصولها المحتفظ بها على غرار ما هو منصوص عليه في قانون التوثيق .
2- إقرار نظام رقابة قانوني:
إن الاعتراف للعدل صراحة بمهام إضفاء الصبغة الرسمية على العقود التي يحررها بشكل انفرادي ودون التوقف على تأشيرة القاضي، يتطلب إخضاعه أثناء مزاولة أعماله لنظام رقابة قانوني حماية للمهنة والمستفيدين من خدماتها، وتفاديا للمساس بسمعتها وضمان سيرها.
فالرسالة الموكولة للموثقين، والأمانة المطوقون بها، والحقوق التي وضعها المواطنون بين أيديهم، والمصالح التي يجب أن يرعاها هؤلاء تتطلب رقابة موصولة من طرف السلطة العمومية ، لذلك يجب أن يخضع العدول لمراقبة قانونية فعلية يتم إسناد مهمة القيام بها إلى السلطات التالية:
– الهيئة الوطنية للعدول ومجالسها الجهوية، بوصفها الأجهزة التي تحتكر تمثيلية مهنة التوثيق العدلي أمام الأغيار من الأفراد والإدارات والمؤسسات، وذلك بالسهر على تحفيز العدول على مباشرة مهامهم وفق القانون وما يوجبه من حسن السلوك والمروءة والإخلاص.
– الوكيل العام للملك أو من ينتدبه لهذه الغاية فيما يتعلق بالإجراءات والمضامين، وذلك بزيارته لمكاتب التوثيق العدلي مرة واحدة على الأقل في السنة، للبحث والتفتيش والاطلاع الواسع على الأرشيف وتفحص أصول العقود والسجلات والحسابات وغير ذلك من المستندات التي يراها مفيدة فيما هو بشأنه من أبحاث. شريطة أن تتم هذه المراقبة بحضور رئيس المجلس الجهوي للعدول أو من ينوب عنه، كضمانة مزدوجة تطبع عملية الاطلاع والتفقد بنوع من المهنية والاحترافية، لتوضيح الأمور والكشف عن مواطن الخلل وبحث سبل تداركها.
– القطاع المكلف بالمالية، فيما له صلة بتدبير الأموال والائتمان عليها، وكذا الوفاء بالواجبات المستحقة للخزينة العامة، ولمن يجب من المستفيدين من المعاملات التي أنجزت في الملف.
إن هذه الرقابة في مستوى هذا الحجم، كفيلة بتقيد العدول بالضوابط القانونية وتوجيههم إلى النهج الصحيح، قصد الرقي بمهنة التوثيق العدلي وزيادة الثقة والائتمان لدى المتعاملين معها.
3- إلزامية التكوين القانوني والتأهيل المهني:
إن الحديث عن استقلالية الوثيقة العدلية عند تحريرها بعدم خضوعها لرقابة القضاء خاصة فيما يتعلق بخطاب قاضي التوثيق كإجراء شكلي، يقتضي أن يكون العدل على مستوى عال من التكوين والكفاءة العلمية الشرعية والقانونية .
ولقد سجل تراجعا كبيرا على مستوى التكوين العام للعدل، سيما وأن جانب من هذا التكوين لم تعط له الأهمية البالغة والقصوى لا على المستوى التشريعي ولا على مستوى عمل الهيئة الوطنية للعدول ، وهي ظاهرة دخيلة على مهنة العلماء والفقهاء التي كان رجالها ذو كعب عال، وتفكير شامخ وذاكرة قوية، ومرجعية شاملة تشكل مفخرة الأجيال ورفعة الأسياد.
وأكيد أن هذا التراجع لا يخدم مهنة الفقهاء والعلماء التي طبعتها الأقلام الأنيقة والفكر المتألق واللغة البليغة والتحليل المنسجم، لذلك أضحى التكوين القانوني للعدل خيارا استراتيجيا وضرورة أملتها طبيعة هذه المهنة وخطورتها وطابعها الحمائي المتمثل في حفظ الحقوق وتأمين المعاملات وقطع النزاعات.
وفي هذا الإطار نتساءل: هل الإجازة أصبحت كافية كعتبة لمزاولة مهنة التوثيق العدلي؟ وهل الامتحان بظروفه وشكلياته ومصداقيته أصبح كافيا لفرز المستحقين للالتحاق بالمهنة؟
أعتقد أن الأمر يذهب إلى خلاف ذلك، ومن ثمة فإننا نقترح البدائل التالية:
– مراجعة شروط ومعايير الولوج إلى مهنة التوثيق العدلي والارتقاء بها إلى شهادة الماستر في القانون الخاص دون غيرها من الشواهد الأخرى ؛
– خلق شعب بكليات الحقوق خاصة بالتوثيق العدلي لتلقي دراسة صحيحة وعميقة ورصيد قانوني مهني يؤهل صاحبه ولوج المهنة؛
– تنظيم دورات تكوينية للمهنيين في جميع مجالات القانون المستحدثة وذات الارتباط بعالم المال والأعمال والعقار والتجارة الدولية …. إلخ، حتى يكون العدل على درجة عالية من الإدراك المعرفي والقانوني، تمكنه من توثيق اتفاقات الأطراف وإسداء النصح لهم طبقا للقانون وفي احترام تام لأخلاقيات المهنة؛
– الاهتمام بمجال المعلوميات، بالنظر إلى أن دراسة القانون لم تعد تكتمل بدون معرفة أدنى بها؛
– ضرورة إحداث معهد وطني للتكوين المهني للتوثيق ، باعتباره الوسيلة الأنجع لتطوير المستوى العلمي والمهني للعدل، وأداة لمواكبة مستجدات التشريع وتطوير العمل التوثيقي؛
– وضع إستراتيجية لإلزام العدل للتكوين تحت طائلة الجزاء التأديبي”l’obligation de formation”؛
– تكريس ثقافة تبادل الزيارات بين الهيآت الوطنية والدولية، وخلق فرص خلال هذه الزيارات لتنظيم لقاءات لمناقشة مواضيع قانونية على مستوى الهيآت والمنظمات والدول؛
– انفتاح مهنة التوثيق العدلي على محيطها وطنيا ودوليا مع إبرام اتفاقيات شراكة أو توأمة مع المؤسسات والجهات ذات العلاقة؛
– وفي الأخير فإننا ندعو المشرع إلى الأخذ بعنصر التكوين المستمر في مسودة مشروع تعديل القانون 03.16 المرتقب ويجعله إجباريا تحت طائلة العقوبة التأديبية.
هذا غيض من فيض نقترحه بتواضع للإسهام في التأهيل المهني الشامل والتكوين خاصة، الذي أصبح يعرف تراجعا نسبيا لمهنة عاشت للقمة، وستظل بموقعها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
نخلص إلى أن تحقيق استقلالية مرفق التوثيق العدلي بالمغرب، وتوفير الضمانات والوسائل الضرورية لترجمة هذا المبدأ إلى واقع ملموس، يبقى هو المدخل الأساسي لإصلاح هذه المهنة وتأهيلها انسجاما مع غايات الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة بالمغرب.
المحور الثاني
متطلبات إصلاح مهنة التوثيق العدلي بالمغرب
انطلاقا من الأهداف السامية التي تسعى مهنة التوثيق العدلي إلى تحقيقها، والخدمات الجليلة التي كانت وما تزال تسديها للقضاء، خاصة في مجال تخفيف العبء عن المحاكم عن طريق توخي حدوث النزاع، إضافة إلى توفير جو من السلم القانوني بشكل يحفظ التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين المتعاقدين، فإنه لم يعد مستساغا الحديث عن مستقبل مهنة هي من ركائز أسرة العدالة بالمغرب وهي مازالت منظمة بقواعد قانونية تقليدية وعتيقة تفتقد لأدنى درجات التجرد والاستقلال ولا توفر أدنى حماية للممارسين أو للمتعاقدين على حد سواء .
وتكريسا للإرادة القوية للإصلاح، فإننا ندعوا المشرع إلى إعادة النظر في أحكام ومقتضيات القانون 16.03 جملة وتفصيلا، والعمل على سن قانون جديد يجعل من مهنة التوثيق العدلي أكثر تنظيما ونجاعة وتخليقا، وفق تصور يستجيب لمقتضيات العصر وللمواثيق والمعايير الدولية المعتمدة في تنظيم المهن الحرة، وملائمة المناشير والدوريات والمذكرات مع القانون لأنها مجرد آليات لتفسير النصوص القانونية لا لتعطيلها أو مخالفتها، والتقيد بروح الدستور المتشبع بالمساواة في الحقوق بين العاملين في القطاع.
وفي نفس الإطار ندعو الهيئة الوطنية للعدول باعتبارها الممثل الرسمي لعدول المغرب، وبالتعاون مع باقي الفاعلين في قطاع التوثيق العدلي بالمغرب، إلى تكوين لجنة من الخبراء في مجال التشريع والأساتذة الجامعيين والمهتمين بالشأن التوثيقي إلى الانكباب على مراجعة وتحيين مسودة مشروع تعديل القانون 16.03، من أجل صياغة قانون حديث وعصري يرقى إلى مستوى تطلعات وانتظارات السادة العدول وكل الأطراف والشركاء، ويكون أداة فعالة في تحقيق السلم القانوني وإرساء دعائم العدالة الوقائية بالمغرب .
وفي انتظار بلوغ هذا الهدف، آثرنا إلا أن نطرح بعض المقترحات والأفكار التي ارتأينا أنها تشكل أبرز متطلبات إصلاح مهنة التوثيق العدلي بالمغرب، في أفق تهيئ المجال للانتقال إلى توحيد التوثيق الرسمي ببلادنا ، وذلك وفق الشكل التالي:
أولا- من حيث الأحكام العامة وشروط الانخراط
ثانيا- من حيث الاختصاصات
ثالثا- من حيث منهجية التوثيق
رابعا- من حيث الحقوق والواجبات
خامسا- من حيث مسطرة التأديب
سادسا- من حيث تنظيم المهنة
سابعا- من حيث المقتضيات الزجرية
أولا- من حيث لأحكام العامة وشروط الانخراط:
– تحديد ماهية مهنة التوثيق العدلي وطبيعتها، والتنصيص على حريتها واستقلاليتها على غرار ما هو منصوص عليه في مهن قانونية أخرى ، مع حفظ حق الرقابة القانونية نظرا لجسامة المهام والصلاحيات التي يقوم بها العدل؛
– تغيير تسمية المهنة من “خطة العدالة” إلى التوثيق العدلي، واعتبار العدول مهنة مستقلة تندرج ضمن أسرة القضاء ؛
– تحديد عمل العدل في توثيق العقود طبقا للقوانين والأنظمة وإضفاء طابع الرسمية عليها؛
– الرفع من المؤهل العلمي المطلوب في المترشح لمهنة التوثيق العدلي من الإجازة إلى الماستر في القانون الخاص، بشكل يتناسب ودور العدل في الوقت الحاضر كناصح ومستشار وموثق للعقود والمعاملات؛
– التنصيص على شرط الذكورة في المترشح لمهنة التوثيق العدلي كحق مكتسب جرى به العمل عبر التاريخ الطويل لهذه المهنة العريقة ؛
– مراجعة مدة التمرين والارتقاء بها إلى ثلاث سنوات كحد أدنى، يتم قضاء سنة أولى بمعهد وطني للتوثيق يحدث لهذه الغاية، وسنتين يتم قضاؤها بمكاتب التوثيق العدلي، بغية ضمان جودة تأهيل العدول وتكوينهم تكوينا كافيا لممارسة المهام المنوطة بهم؛
– تحديد قائمة الوظائف والأعمال التي تتنافى مع ممارسة مهنة التوثيق العدلي بغرض المحافظة على استقلاليتها وحيادها وتمكين الأشخاص من اللجوء إليها عن قناعة وبكل حرية دون ضغوطات أو عراقيل مهما كان نوعها ؛
– فتح المجال للعدول لولوج سلك القضاء، وإخضاعهم لنفس الشروط المخولة لباقي المهنيين والموظفين سواء المتعلقة باجتياز المباراة أو الإعفاء منها؛
– التنصيص على تقيد العدل في سلوكه المهني بمبادئ الأمانة والنزاهة، وما تقتضيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد المهنة وأدبياتها. على الرغم من أننا لا نشك في آداب وأخلاق العدول، باعتبارها سمات ورواسب يحملها العدل من الحليب الذي تجرعه من ثدي أمه، والتربية التي تلقاها في صباه، والسلوكيات التي تعايش بها في أحضان بيته؛
– سن مدونة تتضمن القواعد الأخلاقية والمهنية التي يجب على العدل الالتزام بها على غرار ما هو موجود بالنسبة لبعض المهن القانونية الأخرى.
ثانيا- من حيث الاختصاصات:
يجب التمييز في هذا الإطار بين اختصاصين أساسين: الأول يتعلق بالمكان، والثاني يرتبط بموضوع أعمال العدل ومهامه.
1- بالنسبة للاختصاص المكاني:
يجب العمل على توسيع دائرة الاختصاص المكاني للتوثيق العدلي ، وذلك بجعله في مجموع التراب الوطني شريطة أن يحرر العدل العقود والاشهادات والتوقيع عليها داخل مكتبه، باستثناء الحالات التي تسمح له بأن يتلقى تصريحات المتعاقدين والشهود خارج مكتبه، وذلك بعد إذن صريح من رئيس المجلس الجهوي كما هو الشأن بالنسبة لمهنة التوثيق .
2- بالنسبة للاختصاص النوعي:
يجب العمل على تحديد الاختصاص النوعي للعدل، مع تمييزه عن وظيفة إضفاء الصيغة الرسمية على المحررات التي ينجزها وذلك وفق الشكل التالي :
بخصوص وظيفة إضفاء الصبغة الرسمية، يجب التنصيص صراحة على أن العدل يختص بتوثيق العقود التي يستوجب القانون أو ترغب الأطراف في إضفاء الصبغة الرسمية عليها، ومنحه الصلاحية في أن يباشر كل الإجراءات القانونية والإدارية التي من شأنها أن تجعل تلك العقود نافذة، سواء بين الأطراف أو في مواجهة الأغيار.
أما بالنسبة للاختصاصات النوعية، فينبغي حصرها وتحديدها وإن كان يصعب ذلك، لكون العدول لهم الولاية العامة في توثيق جميع الوقائع والعقود والاتفاقات المتعلقة بالأحوال الشخصية والمدنية والعقارية والتجارية وغيرها من المعاملات ، ومع ذلك يجب النص على أنه تثبت بعقد رسمي التصرفات القانونية التالية:
– نقل ملكية العقارات المحفظة أو غير المحفظة أو في طور التحفيظ؛
– إنشاء أو نقل أو تعديل أو إسقاط الحقوق العينية أو التحملات العقارية؛
– تفويت الحصص أو الأسهم في شركات ذات غرض عقاري؛
– جميع العقود الواردة على الأصول التجارية والسفن والطائرات؛
– البيوعات التي تتم عن طريق المزاد العلني، سواء تعلق الأمر بأموال منقولة أو عقارات؛
– الوكالات الخاصة المتعلقة بتوثيق التصرفات العقارية طبقا لأحكام المادة الرابعة من القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية كما تم تعديلها وتتميمها بموجب القانون رقم 69.16 ؛
– جميع العقود المتعلقة بالأحوال الشخصية طبقا لأحكام القانون رقم 03.70 بمثابة مدونة الأسرة والقوانين ذات الصلة؛
مع التأكيد على أن كل عقد أنجز خلافا للمقتضيات المذكورة يعتبر باطلا بقوة القانون، باستثناء الحالات التي يتولى تحريرها محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض.
النص كذلك على أن العدل يختص أيضا بمطابقة النسخ لأصولها وإجراء القرعة وجرد الأملاك ووضع ورفع الأختام والقيام بالوساطة ومهام الوكيل بالعمولة، شريطة أن يكون هو من يتلقى العقد موضوع الوساطة أو الوكالة بالعمولة، مع إمكانية تسليم شهادات تثبت الاتفاقات والوقائع التي تمت بمحضره ونشأت عنها التزامات قانونية.
وأخيرا نحبذ لو أخد المشرع باختصاص نوعي يتعلق بالخبرة العقارية والمفاوضة العقارية (Négociation Immobilière)، باعتبار أن ميدان العقار هو المجال الرئيسي والحيوي لمهنة التوثيق العدلي.
ثالثا- من حيث منهجية التوثيق:
لتطوير منهجية التوثيق العدلي يجب إعادة النظر في كيفية تلقي العقود ومسطرة تحريرها وحفظها واستخراج نسخ منها، وذلك وفق التصورات التالية:
– اعتماد التلقي الانفرادي للعقود والشهادات كقاعدة عامة، وجعل التلقي الثنائي استثناء فيما ينص عليه المشرع في قضايا الأسرة ؛
– التنصيص صراحة على الممارسة الجماعية للمهنة، مع تحديد الطبيعة الخاصة لهذه الشراكة كما هو معمول به بالنسبة لمهنة المحاماة؛
– النص على رسمية العقد بمجرد إدراج ملخصه بمذكرة الحفظ، مع تغيير اسم هذه الأخيرة باسم “سجل الحفظ”؛
– إقرار ضوابط وشروط محكمة في تحرير العقود مع إحاطتها بالحماية اللازمة، حتى لا يترك أي مجال للعبث بها وتطالها يد المزورين والمحرفين؛
– تنظيم شهادة اللفيف بقانون خاص، والحسم في قيمتها الإثباتية بجعلها وسيلة إثبات منتجة، مع ضرورة التقليص من عدد شهودها في حدود خمسة شهود على الأكثر، بشرط أدائهم لليمين أمام العدل ، لوضع حد لكل المشاكل التي تطرحها سواء على مستوى المعاملات أو على مستوى القضاء ؛
– الاستغناء عن خطاب القاضي المكلف بالتوثيق، والاعتراف برسمية المحررات العدلية طبقا لأحكام قانون الالتزامات والعقود، مع منحها القوة الثبوتية والتنفيذية في آن واحد؛
– اعتماد نظام معلوماتي وورقي في آن واحد لحفظ أصول العقود والوثائق الملحقة بها، مع تحديد طريقة تسليم النسخ والنظائر وفق ضوابط ينص عليها القانون؛
– ملائمة قانون التوثيق العدلي مع القانون رقم 03.53 المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية فيما يتعلق بمسك السجلات والأرشيف، وإحداث مركز وطني للأرشيف خاص بالعقود الرسمية؛
رابعا- من حيث الحقوق والواجبات:
لما كان العدل هو الفاعل الأكثر أهمية في مهنة التوثيق العدلي، فإن تأهيل وتطوير قدراته مطلب مهم وضروري، لذلك وجب تمتيعه بمجموعة من الحقوق أثناء ممارسته لمهامه القانونية، وفي المقابل إلزامه بإتيان مجموعة من الواجبات تحت طائلة الرقابة والمسؤولية.
1- بالنسبة لحقـوق العدل:
حتى يقوم العدل بوظيفته المتمثلة في توثيق مختلف العقود والمعاملات وإضفاء طابع الرسمية عليها، لابد من أن يتمتع بمجموعة من الحقوق نلخص أهمها فيما يلي:
– النص صراحة على حق العدل في الحصول على أتعاب بدل “أجور” كمقابل للخدمة التي يقدمها للأطراف المتعاقدة، وإضفاء طابع الديون الممتازة عليها طبقا للفصل 1248 من قانون الالتزامات والعقود، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن هذه الأتعاب تعتبر المصدر الوحيد لدخل العدل؛
– منح كل عدل الحق في فتح حساب للودائع والأداءات لدى صندوق الإيداع والتدبير يعهد بتسييره وتحت مسؤوليته، مع رسم حدود واضحة تكفل الإيداع الفوري للأموال المسلمة للعدول وحفظها كأمانات بهذا الحساب كما هو عليه الأمر بالنسبة للموثقين ؛
– التنصيص على حق العدل في التغيب أو التوقف الاضطراري أو الانقطاع المؤقت عن العمل ؛
– تكريس حق العدل في طلب الإعفاء من مهامه سواء كان ما يبرر ذلك أو لم يكن ، مع التنصيص على حقه في طلب الانتقال، وتحديد شروط ومعايير هذا الانتقال بمقتضى نص تنظيمي لضمان نوع من الشفافية والتوقعية ؛
– السماح للعدل بالإشهار ولو كان فرديا في حدود ما لا يتنافى مع كرامة المهنة، شريطة وضع ضوابط ملزمة يتقيد بها العدل عند قيامه بالإشهار ؛
– التأكيد على أن العدل ليس طرفا في العقد درءا لإدخاله في المساطر القضائية التي تهم أطراف العقد، والتأكيد على مسؤولية العدل كقاعدة هي المسؤولية المنصوص عليها في القانون المنظم للمهنة ؛
– أسوة بقانون التوثيق يجب التنصيص على حق العدل في الانخراط في صندوق للتأمين، كآلية تهدف إلى ضمان أداء المبالغ المحكوم بها لفائدة الأطراف المتضررة من جراء أخطائه المهنية في حالة عسره، وعدم كفاية المبلغ المؤدى من طرف شركة التأمين، أو نتيجة أخطائه الأخرى غير المشمولة بعقد التأمين ؛
2- بالنسبة لالتزامات العدل:
في مقابل الحقوق التي يجب أن يتمتع بها العدل، يتعين عليه أيضا أن يتحمل بمجموعة من الالتزامات، نورد أهمها فيما يلي:
– إلزام العدل بالقيام بجميع الإجراءات الشكلية والإدارية المتعلقة بالعقود التي ينجزها، وخصوصا إجراءات التقييد والتسجيل تحت طائلة المتابعة المدنية والجنائية والتأديبية . وذلك لما لهذا هذا الالتزام من دور في تعزيز ثقة المواطنين في مؤسسة التوثيق العدلي والاطمئنان إليها والاستعانة بخدماتها؛
– ضرورة إلزام العدل بتقديم الإرشادات والنصائح الضرورية للأطراف كما هو الشأن بالنسبة للموثق ، حتى يكونوا على بينة واطلاع على مختلف آثار التصرف المراد توثيقه، مع تكريس هذا الإلزام في قاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على إسقاطها ؛
– إلزام العدل بالتأكد من الوضعية القانونية والجبائية للعقار الذي يريد الأطراف التعامل بشأنه تحت طائلة المساءلة ؛
– أيضا يجب إلزام العدل بتحقيق النتيجة والغاية التي من أجلها تلقى العقد، تماشيا مع اليمين الذي أداه قبل ولوج مهنة التوثيق العدلي ؛
– التأكيد على التزام العدل بالمحافظة على السر المهني ، باعتباره من أوكد الواجبات الملقاة على كاهله، مع التنصيص على انصرافه إلى العدول المتمرنين وكل الأجراء الذين يشتغلون بمكتب العدل تحت طائلة القانون الجنائي؛
– تجنبا للسقوط في المحظور، يجب إلزام العدل بالتحقق من هوية الأطراف المتعاقدة وأهليتهم القانونية تحت مسؤوليته، مع تحميلة المسؤولية على كل ما يضمنه في المحررات من بيانات يعلم أنها مخالفة للحقيقة ؛
– التنصيص على مقتضيات قانونية تمنع العدل من توثيق أي معاملة يكون له آو لزوجه أو لأصوله أو فروعه مصلحة شخصية أو شهودا فيها، وكذلك إذا كانت هناك قرابة أو مصاهرة بينه أو بين زوجه مع أحد الأطراف إلى غاية الدرجة الرابعة، تأكيدا على ما يتحلى به العدل من حياد في توثيق العقود ؛
– كذلك يجب النص على منع العدل من توثيق العقود التي تنصب على أشياء غير قابلة للتفويت أو أن تفويتها يتوقف على شروط أو إجراءات لم تستوف بعد، وذلك لأن المفروض فيه أن يعاين ويشهد بالممكن لا بتصرف مستحيل أو غير ممكن في الراهن ؛
– وفي إطار جعل التوثيق العدلي في خدمة المواطن، فإنه يجب إعادة التنصيص على مسؤولية العدل الذي يمتنع عن القيام بواجبه بدون سبب مشروع، وأذى ذلك إلى حدوث أضرار للزبناء ؛
خامسا- من حيث مسطرة التأديب:
إن مصداقية مهنة التوثيق العدلي وشعور الممارسين والمتعاملين معها بالاطمئنان على السواء، لا يتحقق إلا بوجود نظام تأديبي يضمن للعدل تطبيق إجراءات تأديبية عادلة تحترم فيها حقوقه وتمكنه من الدفاع عن نفسه وتكفل للدولة ممارسة حقها في مراقبة أنشطة مكاتب التوثيق العدلي وإحالة العدول المخطئين على الجهات التأديبية، لذلك نقترح:
– مراجعة مدى فعالية مسطرة التأديب الحالية لتخليق المهنة ومراعاة استقلاليتها وإقامة توازن بين تخليق المهنة ومتابعة المخالفين وبين حماية العدول والحفاظ على سمعتهم وكرامتهم وشرفهم ؛
– تخويل أجهزة المهنة دورا كبيرا في مهمة التأديب، من أجل تحصينها وحماية أهدافها والحفاظ على أعرافها وتقاليدها وأصالتها؛
– إحداث نظام تأديبي على درجتين:
درجة أولى: توكل لمجالس تأديبية على مستوى كل مجلس جهوي؛
ودرجة ثانية: تسند للجنة الوطنية للطعن، تكون عبارة عن هيئة تأديبية تنظر في الاستئناف الذي يرفع ضد القرارات التي تصدرها المجالس التأديبية الجهوية .
– تخويل العدل إمكانية الاستعانة بمحام أو من يراه مؤهلا لذلك من زملائه لمؤازرته في كل المتابعات التأديبية التي قد تثار ضده كما هو عليه العمل في مهنة التوثيق ، وفي أن يستعمل حق الطعن المنصوص عليه قانونا ضد المقررات التأديبية؛
– إعطاء الحق للعدل في الإطلاع على جميع وثائق الملف المتابع فيه والحصول على نسخ منها في إطار المتابعات القضائية التي يحاكم فيها العدل تأديبيا ؛
سادسا- من حيث تنظيم المهنة:
نقصد بتنظيم مهنة التوثيق العدلي، تحديد الجهات الموكول إليها هذا التنظيم، والواجبات المهنية الملقاة على عاتقها، لذلك فإنه من أجل نجاح مهنة التوثيق العدلي والارتقاء بعطاءاتها، وحسن تنظيمها وتأطيرها، ندعو المشرع إلى مراجعة التنظيم الحالي للمهنة، إن على الصعيد الوطني أو الجهوي أو الدولي.
1- وطنيا:
تعتبر الهيئة الوطنية للعدول هي المخاطب الرسمي لمهنة التوثيق العدلي، والإطار الذي يلتئم فيه جميع العدول بشأن ما له علاقة بمهنتهم ، لذلك فالمشرع مدعو إلى تعميق أدوارها واختصاصاتها وفق التصورات التالية:
– التأكيد على الأحادية في الإشراف في تدبير الشأن المهني، بما يحفظ استقلال هذا المرفق العمومي في تدبير وتصريف رسالته في توثيق العقود والإشهاد على إرادة من يلجأ إلى خدماته؛
– التأكيد على إجبارية الانتظام في الهيئة، وأداء واجبات الاشتراك، مع ترتيب آثار قانونية في حالة عدم الأداء؛
– فتح المجال للعدول الشباب في تسيير قطاع التوثيق العدلي، وذلك بالتخفيض من مدة الأقدمية للترشح للعضوية والرئاسة؛
– التقليص من دائرة تدخل السلطة التنفيذية في شأن التوثيق العدلي وتكريس مبدأ استقلالية المهنة وذلك بإعطاء الهيئة الوطنية سلطات تقريرية في مرحلة ولوج المهنة والتمرين والتكوين والمراقبة والتأديب على غرار ما هو معمول به في مهنة المحاماة، مع منح جميع الأطراف والوكيل العام للملك حق رفع طلبات الطعن أمام المحاكم الإدارية طبقا للقانون رقم 41.90 ؛
– خلق لجنة مشتركة بين محكمة النقض والهيئة الوطنية للعدول تعقد اجتماعات دورية للتتبع وتقييم العمل القضائي والممارسة المهنية للتوثيق العدلي؛
– تمكين الهيئة من آليات المراقبة الفعلية وتتبع تنفيذ القرارات، لاسيما فيما يتعلق بتدبير موارد الهيئة خاصة على مستوى حساب ودائع وأداءات العدول، ونقترح في هذا الإطار إحداث لجنة خاصة لهذا الغرض، ولا مانع أن تنحو المحاسبة نحو المساءلة الجنائية، متى أثبت تدقيق الحساب خروقات وتجاوزات أدت إلى هدر المال العام للعدول.
2- جهويا:
تشكل المجالس الجهوية القاعدة الأساسية في البنية التنظيمية لمهنة التوثيق العدلي، والدعامة التمثيلية في تصريف الاختيارات والقرارات الوطنية ، لذلك أصبح من الواجب الارتقاء بمهامها واختصاصاتها وفق المقترحات التالية:
– توسيع اختصاصات المجالس الجهوية لتشمل كل ما له علاقة بالمهنة، وتوجيه وإرشاد العدول وتوحيد مناهج العمل؛
– ضرورة إحداث جدول عام بأسماء السادة العدول بكل المجالس الجهوية، على غرار جداول المهن الحرة الأخرى؛
– منح المجالس الجهوية الآليات والوسائل لفض النزاعات بين العدل والمتعاقد بالوسائل البديلة؛
– نهج المقاربة التشاركية والاستشارية بخصوص المتابعات الجنائية المصاحبة لعمل العدل بين كل من المجالس الجهوية للعدول ومؤسسة النيابة العامة.
3- دوليا:
إن الحديث عن إصلاح مهنة التوثيق العدلي وتأهيلها يدفعنا إلى التفكير في تنظيمها على المستوى الدولي كما هو الشأن بالنسبة لمهنة التوثيق “العصري” ، وتوجيهها للانخراط في المنظمة العالمية للتوثيق اللاتيني التي تأسست في 2 أكتوبر 1948 في بونوس أيرس بالأرجنين وهي المنظمة العضو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي لمنظمة الأمم المتحدة في اليونيسكو في المجلس الأوروبي والتي انظم إليها المغرب بتاريخ 26 شتنبر 1986.
وبهذا الصدى العالمي والنفوذ الواسع سيتم ملائمة التوثيق العدلي مع المستجدات المتتالية في ميدان التوثيق اللاتيني، وتحديث نظامه التوثيقي في اتجاه تلاؤمه مع المعاهدات التي توقعها الدول المكونة للمنظمة والاتفاقيات التي تصادق عليها .
سابعا- من حيث المقتضيات الزجرية:
– انطلاقا من الدور الذي يقوم به العدل في تحقيق الأمن التعاقدي، فإنه يجب إحاطته بالضمانات الكافية لأداء مهامه التوثيقية، وذلك بتعزيز حمايته وحصانته بالاعتراف به كمشارك في تحقيق العدالة الوقائية، والتنصيص صراحة على أن كل خرق لضمانات العدل يترتب عنها البطلان.
– بحكم طبيعة وجسام المهام الموكولة للعدل، فإنه يجب تمتيع العدل بالحماية المنصوص عليها في الفصلين 263 و267 من مجموعة القانون الجنائي ؛
– حرصا على كرامة وعز ورفعة المهنة، يجب منع ومعاقبة كل تحرك يدخل في نطاق السمسرة لجلب الزبناء، سواء كان التصرف مباشرا أو بطريقة غير مباشرة، مع استثناء الحالة التي يتم فيها تعريف الجمهور بوجود العدل وموقعه، إما من خلال أوراق الزيارة أو اللوحة التي توضع بمدخل المكتب أو الموقع الالكتروني الخاص به ؛
– ملائمة العقوبات مع طبيعة الفعل المرتكب، خاصة فيما يتعلق بإقرار عقوبات جنائية نتيجة ارتكاب مخالفات مهنية بسيطة ؛
– رفع الخلط بين المحررات الأصلية والمحررات الاسترعائية في متابعات النيابة العامة وبعض أحكام القضاء الزجري، بين عمل العدل باعتباره موثقا بدون شهادة الشهود وبين عمله باعتباره شاهدا ؛
– مراجعة توجه العمل القضائي الذي يتعامل مع اللفيف باعتباره حجة رسمية من حيث الشكل فقط ومن حيث المحتوى على أنه مجرد شهادة، مع العلم أن (المجلس الأعلى سابقا) محكمة النقض حاليا اعتبرت في مجموعة من قراراتها أن شهادة اللفيف تعتبر حجة رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور ؛
– التنصيص على معاقبة كل من ادعى لقب عدل موثق أو انتحل صفته بالعقوبات المنصوص عليها في الفصل 381 من مجموعة القانون الجنائي؛
هذه مجموعة من المقترحات نطرحها من أجل تأهيل وإصلاح مهنة التوثيق العدلي بالمغرب، أما فيما يخص تطويرها فهي رهينة بمدى قدرتها على مواجهة تحديات العولمة والمتمثلة في الاستباق نحو استعمال التكنولوجيات الحديثة وكذا خلق تكتلات قوية من أجل الحد من تداعيات المنافسة الشرسة التي تعرفها .
خاتمة:
نخلص من تأملاتنا لوضعية التوثيق العدلي بالمغرب إلى أن إصلاح مهنة التوثيق العدلي وتحقيق استقلاليتها، معركة لازالت في بدايتها والطريق لازال طويلا وشاقا، لذلك فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانحناء أمام العاصفة أو أخذ زمام المبادرة للعمل من أجل الاندماج في زمن العولمة حتى لا نتخلف عن الركب الأممي، أم أن قدر مهنة التوثيق العدلي يفرض عليها أن تبقى مهنة أسيرة لنوستالجيا الماضي وبعيدة عن المتغيرات الراهنة التي يشهدها عالم اليوم.
وحتى تبقى مهنة التوثيق العدلي الدرع الصلب وتجعل كل من يمارسها ويتحدث عنها يعتز ويفتخر بها لأنها تجسد كل الخصال الرفيعة، صناعة جليلة شريفة، وبضاعة غالية منيفة، تعمل على حفظ الحقوق وتأمين المعاملات وقطع النزاعات، فإننا مدعوون جميعا أكثر من أي وقت مضى إلى بذل الجهد واستفراغ الوسع من أجل إصلاح هذه المهنة النبيلة وتأهيلها وتحقيق استقلاليتها.
وإيمانا منا بالدور الفعال الذي تقوم به كل من الهيئة الوطنية لعدول المغرب والنقابة الوطنية للعدول والجمعية الوطنية للعدول الشباب، في مسيرة إصلاح مهنة التوثيق العدلي والرقي بها نحو مصاف المهن القانونية والقضائية الأخرى، فإننا نتوخى الأفضل لمستقبل هذه المهنة الشريفة.
انتهى بعون الله وتوفيقه
موضوع رائع جدا فهو كامل ومتكامل جدير بالقراءة والمتابعة