الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
تحتل الوثيقة العدلية مكانة مميزة في حياة المجتمع –اعتراف حقيقي وليس جنائزيا– إذ لا يخلو أي بيت مغربي من وثيقة أو أكثر من الوثائق العدلية، توثق وتحفظ حقوق صاحبها سواء تعلق موضوعها بالمجال العقاري أو التجاري أو الأسري…، ولذلك فإن سادتنا العدول الموثقون كانوا وسيبقون ما بقيت هذه المهنة الشريفة العريقة المتجددة والمبتكرة والمواكبة للتطور والعصرنة، ومما لا شك فيه كون تيار التجديد يفرض على الوثيقة العدلية أن تواكب مستجدات الساحة التوثيقية دوليا ومحليا، وإلا حكم على هذه الوثيقة بالجمود والتخلف وعدم القدرة على مسايرة ركب العولمة، إن الفقه التوثيقي مجمع على أن الوثيقة العدلية تحتاج إلى وقفة تأمل وتفكير في المنهجية التي يتعامل معها المشرع القانوني الذي من الفروض فيه أن يمكن هذه الخدمة التوثيقية من آليات التطوير والعصرنة وإلا حكم عليها الزمان بالغرق والسقوط كحجة قاطعة للنزاع ومبرمة له.
وفي سياق ذلك، فإن الوثيقة العدلية تحتاج بشكل مستعجل لميكانيزمات الاشتغال حتى يقبل التعامل بها المتعاملون في السوق التوثيقية، وكما نعلم، فإن الخدمة التوثيقية في المغرب مبلقنة -مشهد تنوعي وتعددي لنفس التوثيق- عكس جيراننا (تونس والجرائر ولبنان وسوريا…) بل وفرنسا، إذ نجد الوثيقة العدلية بصفتها الوسيلة الأولى للإثبات وما يزكي هذا الطرح أن كل من ليس له وسيلة اثبات فيمكنه أن يثبت حقه باللفيف العدلي، ولذلك فالوثيقة العدلية تثبت التصرفات والوقائع، مما يجعلها تستفرد لوحدها بالولاية العامة في التوثيق أو لنقل التوثيق الأم المرجعي المعياري، وإلى جانبها محرر قانون فانتوز الذي نسخ وعوض بالقانون رقم 32.09 بصفتها الوثيقة الثانية نظريا -أما من الناحية الاقتصادية فالمحرر التوثيقي يفرض الاحتكارية والاستلاب على التوثيق العدلي- ويختلف محرر النوطير عن الوثيقة العدلية في أنه يثبت التصرفات دون الوقائع القانونية، وإلى جانب هذين المحررين أقر المشرع محررات سماها الواقع بالعقود العرفية، وهي مجال للفوضى ولإهدار حقوق العباد، فلا الدولة تستفيد منه جبائيا، ولا الأفراد يجدون ضالتهم في الاستناد عليه كحجة لإثبات الحق، خصوصا إن تعلق الأمر بكتابة الممنوعات، ولذلك قيل إن ما يرفض كتابته العدول والموثقون يكتب طبقا لقانون المحرر العرفي، وتنشط هذه البكتيريا التوثيقية في مجال تفويت الأراضي السلالية وأساسا الأبنية المشيدة في هذه الأراضي، تفويت حق الانتفاع الدائم وتفويت الملك الغابوي وتفويت الأملاك الوقفية و تقسيم ما لا يقسم إلا برخصة في ضرب صارخ لقانون 25.90…
مؤدى ذلك، وباعتبار أن المقاربة المثلى لهذا الموضوع تقتضي التعبير الموضوعي عن الأفكار، والموضوعية لا تعني الحياد التام وذلك حسب المدرسة الابستيمولوجية، من هذا المنطلق فخدمة التوثيق يتعين حصرها واحتكارها من قبل من فقهها ودرسها وتمرسها وتكون في معاهد الدولة التي تعنى بشؤونها، ولذلك فإن المنطق يفرض فرضا تجاوز مفارقات الطبيب / العشاب، فالعلم يجب الجهل والفوضى، فالسوق التوثيقية يجب تحريرها من الفوضى، وذلك بتكريس المحرر الرسمي كوسيلة وحيدة لحفظ الحق وضمانه، فلم يعد مقبولا وضع الوثيقة الرسمية (العدلية والتوثيقة) في نفس ميزان القوى مع المحرر العرفي.
استنادا إلى ذلك، فالوثيقة العدلية بحكم موقعها الريادي في حفظ الحقوق تفرض على المشرع فرضا أن يقوم بملائمة التشريع الوطني مع التجارب القانونية المقارنة، وذلك بتمكين السادة العدول من آلية تلقي الودائع وكذا جعل العدل الموثق في مرتبة القاضي الوقائي في إطار ما يعرف بالعدالة الوقائية وذلك بنص القانون، فضلا على جعل الوثيقة العدلية سندا للتنفيذ دون ضرورة استصدار حكم في جوهر النزاع مؤكد لصحة وحجة الوثيقة العدلية.
ومما سبق أعلاه، يجد طرح الإشكال التالي: إلى أي حد يعيق التوثيق العدلي تطور المجتمع وهل يراد له أن يبقى توثيقا عتيقا متخلفا لا يواكب المستجدات ولا يف بالغرض بحيث لا يشجع على توطين الأموال والأعمال داخل البلد، ألا يعيش هذا التوثيق أزمة حقيقة ويحتاج إلى التحرر والانعتاق من الآليات البدائية للاشتغال القاضي والناسخ والمذكرة لتحقيق استقلاليته كمهنة حرة كما هو مدبج في القانون 16.03؟
إن الضرورة المنهجية تقتضي تصريف أفكار هذا العرض وفق قالب منهجي كما هو متعود عليه أكاديميا، ولأجل ذلك، سوف أقسم هذا العرض إلى ثلاث محاور حيث سأخصص المحور الأول لمناقشة ضبابية التصور العام للتوثيق العدلي، بينما المحور الثاني فسيتم تناول أزمة متدخلين مقحمين في التوثيق العدلي ، أما المحور الثالث فيتعلق بالأزمة البنيوية للوثيقة العدلية.
المحور الأول: ضبابية التصور العام للتوثيق العدلي (محدودية رسمية الوضع)
لقد آن الأوان للحكومة المغربية أن تقف وقفة تأمل وتبصر وحكمة، لأن تدبير الشأن العام عموما يفرض مقاربته بشكل جيد ومسؤول، والسياسة التوثيقية بشقيها (العدلي/ العصري) أصبح يفرض على الحكومة الانكباب بشكل لا رجعة فيه في وضع تصور عام ووطني للورش التوثيقي، والخدمة التوثيقية برهنت منذ زمان بعيد على قدرتها الفائقة على حفظ الحقوق وقطع النزاعات بالحجة والدليل الذي يجد فيه صاحب الحق ضالته وصاحب الباطل ما لا يستجيب لرغباته في الاعتداء على الحقوق، وكذا على القاضي ذلك الخيط الأبيض الأصيل الذي يستطيع من خلاله تمييز الحق عن الباطل.
والوضع الحالي يصعب المأمورية على الدارس وعلى المهتم والباحث والمهني أن يجيب على واقعه وذلك لوجود المعطيات التالية:
أولا: توثيق عقيم بمساطر غارق في التقليدانية والروتينية ومعقد وطويل الأجل ومتدخلوه كثر ويمارس في المغرب بقانون، وبالخارج بمرسوم من قبل جهة لا صلة لها بالعدول، والأخطر أنها تزاول المهنة بدون تكوين في علم التوثيق، الأمر الذي ينذر بالتفسخ العضوي لهذا النمط التوثيقي وتقويضه، وعلى العلل المذكورة فهو صاحب الولاية العامة في التوثيق؛
ثانيا: توثيق عصري ينسجم مع التحولات يختص فيما له ارتباط بالمال -يمارس السحل المهني على التوثيق العدلي- أما الأحوال الشخصية والميراث للمغاربة فهو ممنوع منها؛
ثالثا: المحرر العرفي الذي يعتبر ورقة تغيب فيها ضمانات الحماية التوثيقية، بفعل غياب حنكة ودقة محررها لأن كل من هب ودب يدون المحرر العرفي ويصادق على توقيع الأطراف لدى السلطة المحلية المختصة، ولذلك فهذا السوق مجال للفوضى ويضيع على الدولة موارد مالية جبائيا وينشط هذا المحرر فيما له ارتباط بالأكرية والقروض والسلفات وتعمير الذمم وعقود الشغل…؛
رابعا: محرر عرفي من نوع خاص فوضوي نوعا ما، بفعل أن من يدون فيه شخص درس القانون وتمرسه وعرف خباياه (المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض) لكن يدون اتفاقات الأطراف بدون ضوبط توثيقية ولا دراية بتفاصيل وجزئيات وعناصر كتابة الوثيقة، ذلك لإن كان المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض رجل قانون؛ فإنه ليس برجل شروط أو عقادا أو صانع وثائق، فالوثيقة هي علم وصنعة وهو ما يفتقر إليه المحامي لكونه رجل متخصص في فن المرافعة، حتى أنه في أحيان كثيرة يستحيل بفعل عدم وجود العناصر الأساسية لمحرر المحامي اعتماده كأصل تملك؛
خامسا: مما لا شك فيه كون مهنيو الرسمية التوثيقية لما يتعلق الأمر بتصرف يجيزه المشرع بالمحرر الرسمي أو العرفي، يفضلون كتابته عرفيا وذلك تجنبا للمساءلة المشددة التي أحاط بها المشرع الوثيقة الرسمية وهربا من الواجبات الضربية من جهة ثانية؛
سادسا: بالرجوع إلى التجارب القانونية المقارنة فقد أصبحت تتجه نحو فرض الرسمية التوثيقية لاسيما في مجال العقار والأعمال وفي إطار المنقولات الخاصة الممسوكة سجلاتها من قبل الادارة كالعربات ذات محرك والأصول التجارية والشركات…؛
سابعا: إن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تواجه في كل ندوة أو محفل علمي بسيل من المطالب والاقتراحات من قبل مهنيي قطاع التوثيق -العدول والموثقين- و يصعب عليها أن تلبي تلك الطلبات لكون الوزارة ليس لها جهاز يخطط في ميدان التوثيق تستنير بآرائه وتوجهاته؛
ثامنا: وهو الأخطر أن المشرع لا يعامل الأوراق الرسمية بنفس ميزان المساواة بل هناك محاباة للمحرر التوثيقي على الوثيقة العدلية، ذلك أن المشرع مكن المحرر التوثيقي من ضمانات الجودة والتنافسية والمتمثلة في الاستقلالية والسرعة والإئتمان في تكريس جلي للامبريالية التوثيقية الجديدة، وهو المنطق الذي لا يحكمه المشرع في تعامله مع الوثيقة العدلية التي يغيب عنها عنصر الاستقلالية، ذلك أن العدل الموثق يخضع لأوامر القاضي المكلف بالخطاب في إطار ما يعرف بالرقابة الشكلية، وإنها ليست رقابة شكلية، فالرقابة تكون للقانون، وإن كنا نتحدث عن ربط المسؤلية بالمحاسبة، فإن العدل الموثق يجب عليه أن يحرر وثيقته وأن يكسبها الصبغة الرسمية دون حاجة لأي جهة تراقب أعماله القبلية، وإلا فإن العدل سيكتب عليه أن يكون قاصرا ومحجورا ومرؤوسا لدى القاضي، فضلا على استلزام المشرع لضرورة التلقي الثنائي للعقود، علاوة على عتاقة أساليب اخراج الوثيقة العدلية إلى حيز الوجود إذ يدون العدل اتفاق الأطراف بمذكرة للحفظ تم ينقل ما ضمن فيها إلى محرر ورقي ثم ينقل مضمون المحرر الورقي بسجلات المحكمة من طرف جهة أخرى تسمى بمهنة النساخة ثم بعد ذلك خطاب القاضي، إن هذا البطء يجعل مستهلك خدمة التوثيق العدلي ينفر منها، فعالم السرعة لن يقبل بهذه البدائية في التوثيق، علما أن التوجه العام ينحو نحو المحرر الإلكتروني فأين هو حظ التوثيق العدلي من الرقمنة؟
وفق قناعة متواضعة فالمشرع المغربي مدعو بإلحاح شديد إلى الإجابة على انتظارات المرتفقين قبل المهنيين، فطريقة اشتغال المحرر العدلي اليوم كمن يحمل فأسا ويحفر قبره بيده، ولذلك فهل المشرع يريد المحرر العدلي كمنافس للمحرر التوثيقي؟ حسن النية والظن يقتضي ذلك، وعليه فالمشرع ملزم بأن يمكن الوثيقة العدلية من آليات الاستقلالية والسرعة والإئتمان وذلك بغية تأهيلها.
هذه المبررات وغيرها تسائل صناع الشأن العام حول أي توثيق نريد؟ فالواقع أن السوق حاليا فوضوي وهش، فمن هب ودب يكتب العقود وكأن هذه القلعة بلا حراس، كما السؤال يطرح حول هل الدولة تريد توثيقا واحدا جامعا ومانعا أم تريد تقسيم كعكعة التوثيق على المهن القانونية التي هي ابعد على التوثيق -المحامي والخبير المحاسب والمحاسب المعتمد ثم وكيل الأعمال- والمنتدبين القضائيين يستبيحون حرمة التوثيق العدلي، وربما في يوم منظور قد نرى المفوض القضائي يطالب بمزاولة التوثيق اسوة بغيره من المهن، مما ينتج عنه مزاحمة ومحاصرة الوثيقة الرسمية، بل ان الورقة الرسمية هي الاستثناء في التوثيق في بعض المجالات خاصة في المنقولات الخاصة الممسوكة السجل من قبل الإدارة أو المحكمة.
وبإعادة تركيب هذه المعطيات، أقترح بتواضع ضرورة خلق جهاز وطني تحت مسمى الهيئة العليا لمراقبة مهن التوثيق وتكون مهمة هذه المؤسسة التخطيط والتدبير الاستراتيجي لما يراد أن يكون عليه التوثيق في البلد، وبالتالي فالهيئة من مهامها الأساسية بلوة استراتيجة وطنية للتوثيق تكون بمثابة خارطة الطريق لمهن التوثيق مستشرفة لآفاق وتطلعات هذه المهن في المدى المتوسط والبعيد ومنفتحة على اختصاصات جديدة ومدعمة للوثيقة الرسمية كوسيلة وحيدة للاثبات، علاوة على دورها التخليقي من خلال عملها على انجاز مدونة للسلوك والقيم في ميدان التوثيق، فضلا على اعتبارها هيئة للطعن في المقررات التأديبية لمجالس مهنتي التوثيق، كما تقوم بإعداد تقرير سنوي يرصد واقع مهن التوثيق ويعرض لزوما على البرلمان وينشر بالجريدة الرسمية وبالبوابة الالكترونية للهيئة.
إن خلق الهيئة العليا لمراقبة مهن التوثيق تزكيه مركزية هذه المهن في تحقيق الأمن التعاقدي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي، كما أن مطالب التحديث والعصرنة تستدعي وجود خطة وطنية مستشرفة عارفة بالعمق التوثيقي، إن الهدف الأسمى من وراء خلق هذه المؤسسة يتجلى في ضرورة تمتيع مرتفق التوثيق (عدلي/ عصري) بضمانات الجودة وأن تقدم إليه الخدمة التوثيقة بشكل جيد وسلس ليتحقق له الاطمئنان على حقوقه وأمواله.
المحور الثاني: أزمة متدخلين مقحمين في التوثيق العدلي
في إطار النقاش الدائر حاليا؛ فإنه لا يمكن انكار حقيقة واضحة للعيان، وهي أن التوثيق العدلي يعاني من ظلم وحيف قانوني، فالوثيقة العدلية تعاني بطئا أقل ما يقال عنه أنه يعود لعهد الرمان، انه توثيق تقليداني شكلي عتيق، أما آن للدولة أن تحرر هذا التوثيق المشرف والمشرق من قبضة القاضي المكلف بالخطاب لأن التوثيق يمارسه العدل عن طريق التلقي، وما تلقاه العدل في مذكرته يحاسب عليه مدنيا وجنائيا، فالقاضي المكلف بالخطاب أصبح رمزا للتقليد رمزا لإهدار الزمن التوثيقي، إن فقه التحولات ينطلق من قاعدة أساسية وهي دوران الحكم مع السبب وجودا وعدما، لذلك فالمبرر الذي كان يفرض وجود مؤسسة القاضي زالت اليوم، وبالتالي لم تعد هناك ضرورة لبقاءه، فالعدل ليس قاصرا، إن المراقبة التي يجب أن تكون هي الرقابة القانونية، أي الاحتكام للنصوص القانونية ومن خالف القانون من العدول فالقانون سيتولاه، أما آن الأوان للتحديث الحقيقي للمهنة واخراجها من دائرة البين-بين، فما هي تقليدية صرفة ولا هي في مسارها الطبيعي نحو الانعتاق من مخلفات الماضي السحيق.
وفق ما نطق به المشرع حسب الاتجاه الداعي لبقاء القاضي المكلف بالخطاب ما ورد في المادة 35 من القانون 16.03، بموجبه فالقاضي لا يخاطب على الشهادات إلا بعد اتمام الاجراءات اللازمة، والتأكد من خلوها من النقص، وسلامتها من الخلل … فضلا أن القاضي لا يخاطب على الشهادات الخاضعة لواجبات التسجيل إلا بعد تأديتها.
وباستقراء هذه المادة فقد كالت للعدول جملة من الاحتقار والدونية -بل إن تلك الأوصاف والنعوت لا يمكن أن تصاغ في أي قانون مهني كيف ما كان- مما يعطي الانطباع أن العدل رجل قاصر غير مكتمل الاهلية ويمكن توضيح ذلك من خلال ما يلي:
_ الوثيقة العدلية وثيقة ناقصة مؤداه أن العدل عمله ناقص، أي إنه نصف متعلم ليس متمكنا من مجال اشتغاله، ولذلك فالقاضي مؤهل بموجب المادة 35 من القانون 16.03 ليتأكد من خلو شهاداته من النقص، فمنطق المشرع وهو بصدد صياغة هذه المادة،غياب ثقته في العمل العدلي، وبالتالي يحجر عليه، وأن أعماله لا يمكن اجازتها إلا إذا تأكد القاضي المكلف بالخطاب أن الوثيقة سالمة من النقص، صيغة السؤال المطروح ماذا يقصد المشرع بالنقص هل النقص الجوهري، أي إن العدل عند كتابته للوثيقة (يقصد أو ينسى) ذكر معطيات جوهرية في الشهادة تجعل من الضروري الرقابة القضائية، أم إن الأمر لا يصل إلى هذه الدرجة بل فقط رقابة من الناحية الشكلية ، صيغة السؤال: ماذا لو وثق العدل ما راج أمامه وبمحضره مما اتفق عليه الأطراف وهو طبقا للمادة 230 من ظهير العقود والالتزامات المغربي بمثابة القانون -العقد شريعة المتعاقدين- وبالتالي فإنه يمنع على أي كان بما فيه القاضي أن يمسه تحت طائلة تزوير المحرر، ماذا لو أن القاضي ألزم العدل بضرورة تعديل بنود المحرر تحت طائلة عدم مخاطبته على الرسم وفعلا عدل العدل المحرر وفق ما طلب القاضي، ماذا لو أن أحد الأطراف ادعى بزورية المحرر وبكون العدل غير اتفاقات الأطراف، هل يتحمل العدل والقاضي مسؤولية ذلك؟ الجواب: إن العدل هو المسؤول الأول والوحيد عن رسمه وإلى جانبه العدل العاطف.
_ كما أن القاضي مدعو من قبل المشرع أن يتأكد من سلامة الوثيقة من الخلل، أيها العدل إن المشرع المغربي في إطار القانون المنظم لمهنتك يصفك ويقول بالعنوان الكبير إنك مختل وإن أعمالك مختلة ووثائقك مختلة فما توثقه بمذكرتك عنوانه الخلل، إن الصيغة التي يتحدث بها المشرع المغربي حري به أن يمنع ممارسي المهنة من الكتابة والتوثيق وكذا الاشهاد، فلا يعقل أن مهنة يزاولها المختلين تبقى قائمة على الوجود، يجب ازالتها وليس تكليف قاضي لمراقبة أعمال المختلين، إن الخلل يجب أن يتولى مراقبته الطبيب المختص، ومن وجهة نظر خاصة فالمشرع جعل القاضي المكلف بالتوثيق طبيبا فهل هذا يستقيم؟
ومن رؤية خاصة فالمشرع يدعو عقول العدول إلى أن تكون اتكالية و غير مسؤولة ومهملة ولا مبالية وغير حرفية، فالقاضي موجود، فهو يتولى مراقبة النقص وسلامة الوثيقة من الخلل، وهذا مما لا يستقيم؛ إذ إن التوثيق صنعة جليلة ولا يتولاها إلا من توفر على شروطها -هذه الشروط محل نظر اليوم لكون يجب ابعاد عدد من التخصصات التي تلج المهنة وإبقائها حكرا على خريجي الشريعة والقانون والقانون الخاص، مع الرفع من مدة التكوين الأساسي لثلاث سنوات والزامية التكوين المستمر في المواضيع القانونية والاشكالات العملية المستجدة في الساحة التوثيقية- لكل هذا فإن المشرع لم يحالفه التوفيق بمناسبة صياغته هذه المادة، فالتوثيق العدلي ليس مجالا يمتهنه السدج والاتكاليون، بل خيرة ما أنجبت الجامعة الوطنية من يتولى ممارسة هذه المهنة الشاقة، التي يختلط فيها ما هو توثيقي صرف بما هو قانوني بما هو فقهي وبما هو حسابي واجرائي عملياتي، لذلك، فلا يقبل منهجا وصف الشرطيون وصناع الوثائق ب “الخلل”، ثم إن المشرع مدعو إلى تبني حسن الظن في المهنيين، لا أن يفترض في أعمالهم ووثائقهم النقص والخلل، لأجله؛ فإن مبرر ابقاء القاضي غير ذي أساس.
وتفعيلا للعدالة التوثيقية بالمغرب يجب على المشرع أن يقوم بتحرير مهنة التوثيق العدلي من مخلفات الاستعمار وتمكين السادة العدول من حريتهم من رقابة القضاء انسجاما مع المستجدات الدستورية القائمة على ربط المسؤولية بالمحاسبة، لذا فإن العدل يجب تمكينه من مسؤولية اضفاء الصبغة الرسمية لوثائقه دون تدخل أي جهة كيفما كان نوعها في رسميتها، وأي خطأ ارتكبه في ذلك يتعين أن يتحمل تبعاته مدنيا وتأديبيا وجنائيا.
إن المشرع لم يقف عند هذا الحد بل انتقل إلى أمر أشد من النقص وأعقد من الخلل لما اعتبر أن القاضي ملزم بضرورة عدم مخاطبته على الوثائق الخاضعة وجوبا للتسجيل إلا بعد تأديتها، هنا فإن المشرع أورد في مثن المادة 17 من خ.ع وكذا المادة 28 من مرسومه التطبيقي الزام العدل بإشعار وحث الأطراف على ضرورة تسجيل الاتفاق ما لم يكلفاه بذلك، كما أن المدونة العامة للضرائب كرست نفس الالتزام بموجب المادة 137، كما أن المادة 155 من ذات المدونة قضت بما يلي:”… غير أنه يجب على الموثقين والعدول والخبراء المحاسبين والمحاسبين المعتمدين القيام بإجراء التسجيل بالطريقة الالكترونية:
_ ابتداء من فاتح يناير 2018 بالنسبة للموثقين؛
_ ابتداء من فاتح يناير 2019 بالنسبة للعدول والخبراء المحاسبين والمحاسبين المعتمدين.”
وبتعميق النظر، فلا حاجة لإبقاء رقابة القاضي على الوثائق الخاضعة للتسجيل لكون أن وزارة المالية لها من الأطر ما يكفي لمراقبة ملفات وسجلات السادة العدول، علما أن العدل يلزم عليه في اطار التعديل الجديد للمادة أعلاه أن يتولى بنفسه عملية تسجيل اتفاقات الأطراف الكترونيا.
وما يقال عن القاضي يصدق على الناسخ، فمعايير التوثيق العالمي تفرض مسك الأرشيف من قبل الموثق وليس لدى جهة أخرى لم تكن طرفا في الوثيقة، بل ان الأرشفة اليوم أصبحت الكترونية، وليس كما هو عليه الوضع بالنسبة للتوثيق العدلي الذي لا زال يعتمد نظام السجلات والتدوين بحبر أسود جاف غير قابل للمحو مع ما يترتب عن ذلك من بطء…
صيغة السؤال المطروح هل بزوال خطاب القاضي المكلف بالتوثيق وإقبار النساخة تكون الوثيقة ومعها مهنة التوثيق العدلي قد استكملت مسلسل تحررها من التخلف والتقليد المقيت؟
بالتأكيد فإن الجواب بالنفي، إعتبارا إلى كون الوثيقة العدلية تحتاج إلى تحصين حدودها مع غيرها من المهن، ذلك أن مجال التوثيق فتح على مصراعيه أمام من هب ودب، ولذلك فإن المرحلة القادمة تفرض على الجسم المهني التضحية بالغالي والنفيس وذلك بعدم التفريط في مجال الأسرة والميراث، ثم ابعاد الدخلاء من التحرير في العقار غير المحفظ بدءا بإبعاد المحامي ثم بالضغط على الغاء الشواهد الادارية بالملك المنصوص عليه في القوانين العقارية، استرجاع الوكالة العدلية في قضايا الأسرة والعقار، ثم توطين الوجود في توثيق العقار المحفظ ومجال الأعمال ومنتوجات البنوك ولاسيما التشاركية منها، كل هذا من أجل تجنب واقع الترميق المهني الذي بدأت بوادر ظهوره.
إن المرتفق لن يشعر بالأمان في التعامل بالوثيقة العدلية، ذلك أنها تغيب عنها مقومات الائتمان والضمان مما أدى إلى الشعور العام بالحدف المهني بدون أي مبرر مقنع وسأوضح ذلك وفق ما يلي:
عدم تمكين مهنيي قطاع التوثيق العدلي من فتح حساب لدى صندوق الايداع والتدبير، وهو حيف في حق هذه المهنة، ذلك أن المشرع يحمل العدل التزامات التضامن مع البائع طبقا للمادة 95 من 15.97 بمثابة مدونة تحصيل الديون العمومية في حالة ما إذا ظهر أن بالعقار موضوع التفويت ضرائب أو رسوم غير مؤداة برسم السنة التي وقع فيها التفويت، فكيف للعدل أن يتحمل بواجب التضامن وهو ليس تحت يده نقود ثمن التفويت المدفوعة من قبل المشتري ليؤدي بها حقوق الخزينة وذلك لأجل الحصول على التصفية الضريبية.
وبفعل غياب آلية تلقي الودائع نتيجة الإنزياح التشريعي المفروض بقانون الغلبة، حرم العدول طبقا للمادة 93 من المدونة العامة للضرائب من التوثيق في السكن الاجتماعي سواء كانت عقودا تمهيدية أو نهائية، سواء تعلق التمويل عن طريق البنوك التقليدية أو التشاركية، أما المبرر الذي ساقه المشرع لتبرير هذا الوضع هو:
“يدفع قابض إدارة الضرائب إلى الموثق المبلغ الذي يساوي مبلغ الضريبة على القيمة المضافة المبين في عقد البيع والمحرر على أساس وعد البيع، باعتباره جزءا من ثمن البيع؛”
والحق أن منح المشرع توثيق السكن الاجتماعي للموثقين هو من قبيل الريع التشريعي، وهو في عمقه يكرس ما يعرف بالعنف الرمزي التشريعي تجاه هيأة العدول، لذلك فقد آن الأوان لترجع الدولة ما نزعته كرها من العدول، فمن لهم الشرعية لتدوين البيعة كأهم عقد اجتماعي يجمع سلاطين المغرب برعاياها الأوفياء، لا يمكن تبرير واقع حرمانهم من توثيق سكن اجتماعي فصلت اجراءاته الروتينية البسيطة مقتضيات المادة أعلاه، ثم إن أتعاب العدول لن تكون إلا أقل من التعرفة الأجرية التي يفرضها الموثقون على زبنائهم مقتنو السكن الاجتماعي وهو ما سيكون في صالح هذه الفئات الاجتماعية المتسمة بمحدودية الدخل.
أيضا حرم المشرع العدول من توثيق بيوع الأصول التجارية للصيدليات طبقا للمادة 57 من قانون 17.04 بمثابة مدونة الأدوية والصيدلة، والحقيقة أن اقصاء السادة العدول غير مبرر -ربما الايديولوجيا التوثقية هي السبب- علما أن الاجراءات بسيطة ولا تحتاج لعمليات ولا لحسابات..بل إن القيام بهذه الاجراءات يتولاها بالنسبة للموثق هم أجراؤه في المكتب، من زاوية حقوقية يجب ازالة هذا الحيف والظلم فلا يقبل قانونا أن تمنح مدونة التجارة الحق للسادة العدول في توثيق الأصول التجارية ويأتي قانون خاص ليحابي جهة توثيقية على حساب أحقية العدول، فالمنطق يقتضي إن اعتبارنا أن الاتجاه العام ينحو نحو الرسمية في المعاملات التجارية أن يتولى المشرع النص على رسمية هذا العقد عوض جعله حكرا على الموثقين دون العدول.
ونظرا لغياب آلية تلقي الودائع فالمشرع أقصى العدول من توثيق تأسيس شركات المساهمة التي تدعو الجمهور إلى الاكتتاب، وذلك بموجب المادة 19 من قانون 17.95 حيث جاء فيها ما يلي:
إذا كانت الشركة تدعو الجمهور للاكتتاب، يودع النظام الأساسي الموقع من طرف المؤسسين لدى كتابة ضبط المحكمة الموجود بدائرتها المقر الاجتماعي للشركة التي هي في طور التأسيس أو لدى مكتب موثق.
يجب أن تتضمن بطاقة الاكتتاب في السهم البيانات المحددة بمرسوم وأن تشير بصفة صريحة إلى إمكانية الإطلاع عليه بكتابة الضبط أو بمكتب الموثق، مع حق الحصول على نسخة على نفقة الطالب.
إن العدول مؤهلون لتوثيق الأنظمة الأساسية لهذه الشركات سواء كان غرضها تجاري أو عقاري، وللقيام بمختلف العمليات المرتبطة بحياتها كالزيادة أو النقصان في رأسمالها فضلا على عمليات تفويت أسهم هذه الشركات إذا تجاوزت 10 في المائة من مجموع رأسمالها، وكذا تقديم الاستشارة القانونية والجبائية لهذه الشركات.
والمشرع المغربي مدعو إلى الاعتراف الرسمي بكون العدول خبراء في ميدان العقار، ولاسيما خبرة التقويم والتقسيم مع ما يترتب عن ذلك من أثر لاسيما تمكينهم من صفة خبير عقاري، وهذا المطلب من شأنهم أن يمكن القضاء من حل عديد من الاشكاليات القانونية العويصة المرتبطة بالعقار والناتجة عن تداخل الأنظمة القانونية والتوثيقية والحسابية، فالمعول عليه أن يحضى العدل بمكانته المرموقة التي كانت له فيما مضى باعتباره عمدة القضاء.
المحور الثالث: الأزمة البنيوية للوثيقة العدلية (أزمة تخطيط المثن)
مما لا شك فيه أن الوثيقة العدلية لم تعد ترضي ممتهنيها قبل زبنائها، اعتبارا لكيفية تلقي الشهادة التي يفرض فيها المشرع من خلال أحكام المادة 27 من قانون 16.03 أن يتلقاها في آن واحد عدلان منتصبان للاشهاد غير أنه يسوغ للعدلين عندما يتعذر عليهما الاشهاد مثنى في آن واحد، أن يتلقياه منفردين بإذن من القاضي في آماد متفاوتة إلا إذا نصت مقتضيات خاصة على خلاف ذلك.
إذا تعذر الحصول على إذن القاضي تعين على العدلين إشعاره بذلك داخل أجل ثلاثة أيام من تاريخ التلقي.
يجب على العدلين في حالة التلقي الفردي أن ينصا عل تاريخ تلقي الاشهاد بالنسبة لكل منهما، مع الاشارة دائما إلى سبب ذلك كما يجب النص في ضلع الملاحظات على مراجع الشهادة بمذكرة الحفظ لكل منهما.
يحق للعدلين أن يشهدا شهادة علمية بإذن من القاضي.
إن هذا النص يسائل بعمق المشرع حول هل استحضر عنصر الزمن التوثيقي لحظة صياغة هذه المادة، أتسائل هل من يريد من العدل أن ينجز له وكالة مستعجلة لكونه يريد مغادرة التراب الوطني سوف ينتظر هذا الكم الهائل من التعقيدات لانجاز هذه الوثيقة، ثم ما حاجة التوثيق لهذا الاجراءات المعقدة في إطار الملفات التوثيقية، ألا يحتاج الأمر لعدل موثق واحد لإنشاء وثيقة عدلية، في ماذا يفيد التلقي الثنائي في العقود والاتفاقات المسماة في العرف التوثيقي بالشهادات الأصلية كالبيع والرهن والصدقة والوكالة والكراء…، فربنا عز وجل قال في محكم تنزيله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه.
أما المادة 28 من قانون 16.03 فتقضي بما يلي:
“يتلقى العدلان الشهادة أولا في مذكرة الحفظ المشار إليها أعلاه، على أن تدرج في مذكرة أحدهما فقط إذا وقع التلقي في آن واحد، وفي مذكرة كل منهما إذا وقع التلقي الفردي في آماد متفاوتة، مع التنصيص في الحالتين على تاريخ تلقي الشهادة…”
انطلاقا من هذه المادة فإنه يلزم أن يتم تلقي الشهادة من قبل العدلين في نفس الآن والمكان ليتم ادراج الشهادة بمذكرة أحدهما، أما إذا وقع العكس أي لم يتحد مجلس العدلين في الزمان والمكان الخاص بالتلقي، فيتعين أن يتلقى كل منهما في مذكرته الشهادة، وكأن طرفي الاتفاق التعاقدي لا شغل لهما إلا انتظار سيادة العدل الثاني ليرهقهما بمزيد من ضياع الجهد والزمن من أجل ادراج شهادة بخط يده بالقلم الأسود مرة ثانية بمذكرته بأجر لا يتجاوز مجمله 300 أو 400 درهم يقتسم بالتساوي بينهما بعد اخراج أجرة الناسخ والدمغة… إن السؤال الذي يجب طرحه هو لمن نشرع ولمصلحة من؟ بموجبه يتعين أن تستحضر المصلحة التوثيقية عند صياغة مواد القانون، لكون المجتمع المغربي لا حاجة له بمثل هذه النصوص الجامدة وبالقطع لا تطبق في الواقع، لأن مرتفق المصلحة التوثيقية في حاجة لمن يساعده في الحصول على تأمين حقوقه في أسرع وقت، عوض هذه المساطر المعقدة التي من شأنها أن تنفر مستهلك الخدمة التوثيقية.
لقد أثبت الواقع أن مذكرة الحفظ تشكل عائقا في العمل العدلي، لذا فالمصلحة تقتضي استبدالها بالعقد النموذجي، مع ضرورة تدوين ملخص العقد بسجل الحفظ، كما أن اللغة التي تكتب بها الوثيقة لم تعد تساير المدونات والقوانين الجاري بها العمل، إذ تدرج مصطلحات من قبيل ( المنتصبين للاشهاد، متمتعان بالأهلية والتمييز والاختيار، بيعا تاما صحيحا ناجزا جائزا بتا بتلا لا شرط فيه ولا ثنيا ولا خيار، وحلا فيه حلول ذي المال في ماله والملك الصحيح في ملكه على السنة في ذلك والمرجع في الدرك بعد النظر والتقليب والرضى كما يجب…)، إن الوثيقة العدلية تحتاج إلى اعادة نظر جذرية في المصطلحات والمفاهيم المستخدمة التي لم تعد بلغة العصر، فإن كانت الوثيقة قد أدت دورها في ما سلف بكل أمانة، فإنها اليوم في مفترق طرق، ولأجل ذلك فتطوير الوثيقة العدلية مصطلحيا يحتاج إلى أن يتحمل الجسم العدلي كامل مسؤوليته في ذلك، ولو بلجوء العدول لتقنية التناص التوثيقي، فتجديد لغة الوثيقة هو شأن عام مهني يحتاج للدراسة والتعمق والنظر، باستحضار نبذ الدوغمائية، لذلك فقد آن الأوان لإخراج مدونة التوثيق العدلي لحيز الوجود، تحدد الاختيارات المنهجية للوثيقة العدلية المستقبلية المعيارية.
والتوثيق العدلي من حقه أن يلج إلى ميدان المال والأعمال، وإن من بين المساوئ التي تلاحق الوثيقة العدلية هو عدم فهم رجال الأعمال لمصطلحات الوثيقة، ثم إنه بات من اللازم على المشرع أن يسمح في استثناء ضيق توثيق الاتفاقات بلغة أجنبية وذلك في إطار التعامل مع الأبناك والمقاولات، فإذا ما ارتضى أطراف العلاقة التعاقدية في مجال المال والأعمال اللجوء إلى لغة أجنبية يتقنها العدل فيجب أن يحرر لهما العقد بتلك اللغة، ولذلك فإن من المهنيين العدول الذين لهم رغبة في توثيق هذه العقود والقانون الوطني يجيز التعامل في إطار القروض بفائدة والرهون وكذا الكفالات الرهنية الضامنة لها … وهذه التصرفات من الناحية الشرعية غير جائزة إذا كان طرف في العقد بنك تقليدي، لذلك فيجيب الاعتراف بعلمنة الوثيقة العدلية في هذه الأصناف من التعاقدات المالية، لكن يجب إزالة العبارات ذات الطابع الديني كلما كانت المعاملة خارجة عن دائرة التعامل في الشريعة الاسلامية ولكن يجيزها القانون.
كما يجب التأكيد على ضرورة أن يقوم المشرع بشكل مستعجل بجعل الوثيقة العدلية بمثابة حكم قضائي وقائي مع ما يترتب عن ذلك من آثار لعل أبرزها تسليم النظير التنفيذي، ذلك أن اغفال هذا المطلب في هذه المرحلة التي تتسم بمشاورات تعديل قانون التوثيق العدلي من شأنه أن يجعل الوثيقة العدلية مستقبلا وثيقة بدون فعالية وقوة وجودة، ثم ان المتعاملين لن يرضون بها، لاسيما في قطاع الأعمال والبنوك، ومما لا شك فيه محورية هذا المطلب في إضفاء القوة والنفاذ للوثيقة العدلية، ثم انه سيريح المحاكم من دعاوى طويلة ومرهقة لاثبات المديونية، إذ الوضع الحالي أن من له سند رسمي في إطار علاقة دين، أنه عند عدم وفاء الطرف المدين يجأ إلى القضاء من أجل استصدار حكم نهائي، مع عقل اموال المدين بواسطة حجز تحفظي، بينما إذا ما تم تمكين التوثيق العدلي من آلية تسليم النظير التنفيذي فإنه سيتم القفز على مرحلة التحقق من صدقية الدين، ويتم المرور مباشرة إلى الحجز التنفيذي، لكن قبل ذلك تعطى للمدين فرصة أداء الدين عن طريق انذار عقاري، إن اغفال المطالبة بضرورة تمكين التوثيق العدلي من آلية تسليم النظير التنفيذي سيجعل الوثيقة العدلية بدون أي قيمة في السوق التوثيقية، فالكل سيتجه نحو المحرر التوثيقي الذي لن يفرط في هذا المطلب، وبذلك سينال مكسبا آخر يضرب به الوثيقة العدلية في مقتل، إن الخوف أن تصير مستقبلا الوثيقة العدلية وثيقة جوفاء لا قوة فيها ولا نفاذ، علما أن التوثيق العالمي يعطي الأحقية لمحرر العقود في تسليمه للأطراف نظير تنفيذي واحد. والدليل على ذلك التشريع الجزائري والفرنسي، لذلك فإن عقود المديونية وعقود تعمير الذمم وعقود الرهن والكفالات الرهنية لن يكون للتوثيق العدلي حظ فيها ما لم تمنح الوثيقة العدلية القوة التنفيذية.
صفوة القول، إن التوصيات التي خرج بها المؤتمرون في ندوة الرباط الأخيرة قد لامست الكثير من المطالب الآنية والمستعجلة لتطوير آداء التوثيق العدلي، فهو خدمة قانونية لا يمكن تصور الاستغناء عنه بل إنه رأسمال غير مادي، لتجدره في أعراف المغاربة، وإن ديمومة استمرار هذا التوثيق وفق ما يرضي تطلعات الشعب المغربي تقتضي تطويره وتجويده ليؤدي الأمانة التي وجد لأجلها آلا وهي حفظ دين و أعراض وأنساب وأموال وأنفس المغاربة، وإن هذه الأمانة تفرض على الدولة تمكين التوثيق العدلي من حريته وذلك بزوال خطاب القاضي بشكل لا رجعة فيه وإقبار مؤسسة النساخة التقليدية، ثم عدم الاعتداء على اختصاصات السادة العدول سواء من قبل الموظفون الذين يزاولون اختصاصات العدول بالخارج، وإن هذا الوضع ليعتبر شاذا في تشريعات العالم بأجمعه إذ إن ممتهنو مهنة قانونية يزاولون مهنتهم في جزء من التراب المغربي ويحرمون منهما لتعطى على شكل هدية لموظفين لا يفقهون التوثيق العدلي داخل جزء من التراب الوطني حيث تمارس فيه الدولة سيادتها الكاملة لكون السفارات والقنصليات تراب وطني، أو من قبل المحرر العرفي، كما يتعين تمكين التوثيق العدلي الرسمي الوطني من ضمانات الجودة والائتمان والنفاذ.
Leave A Comment