إسهاما مني كعدل متمرن وكباحث في سلك الدكتوراه “مختبر الاسرة والطفل و التوثيق” بكلية الحقوق بفاس في تنوير بصيرة المتعاقدين بصفة خاصة والمهتمين بالمجال القانوني بصفة عامة أضع بين أيدكم مؤلفي المعنون بواجب إسداء النصح في المهن القانونية العدول والموثقين نموذجا- دراسة على ضوء العمل القضائي المغربي والمقارن- والذي هو عبارة عن رسالة ماستر والتي حطيت باستحسان المشرفين عليها وبعض المهتمين بمجال التوثيق الذين كانوا وراء نشره ككتاب.
حاولت من خلاله أن أبرز مفهوم النصح باعتباره أهم الالتزامات القانونية الملقاة على عاتق الموثق والعدل هذا الاخير حاولت أن أسس لالتزامه بالنصح تأسيسا قانونيا محاولا تجاوز الرأي القائل بأنه مجرد التزام أخلاقي بالنسبة له، وذلك راجع لعدة أسباب مرتبطة أساسا بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي عرفها العالم، خاصة أن تنامي المعاملات في مختلف المجالات “التجارية، العقارية، الأحوال الشخصية…” فرض خلق آلية لضبطها وحفظ حقوق المتعاملين، كذلك الضرورة الملحة التي أملتها الرغبة في ضمان حماية ناجعة للزبون المتعاقد باعتباره مستهلكا قليل الخبرة من جهة، وكذا لتحريك دواليب الاقتصاد الوطني من خلال تبصير المتعاقد بأهمية الالتزامات الضريبية من جهة أخرى، إضافة إلى وجوب ضمان إعادة التوازن العقدي، لأن القيام بهذا الواجب يجعل البائع والمشتري مثلا “المتعاقدين بصفة عامة” على بينة تامة بالتزاماتهم وحقوقهم من جهة، وكذا معرفة محل العقد وشروطه وآثاره من جهة ثانية.
فهذا الواجب لا يؤدي فقط إلى تنوير رضا المتعاقدين بل يتعداه إلى إظهار الجدوى من العقد المزمع إبرامه كنوع جديد من التشاور والتشارك في العقد، فهو يضمن تحقيق نوع من المساواة في العلم بين المتعاقدين.
وتبرز أهمية الموضوع في كون حماية الإرادة في المرحلة القبل تعاقدية كانت تتم سابقا فقط من خلال نظرية عيوب الإرادة “الغلط، التدليس، الإكراه والغبن” إلا أن الواقع العملي كشف عن عدم استطاعة هذه النظرية مجابهة التغيرات الطارئة في تحقيق الحماية المنشودة لأطراف العلاقة التعاقدية، فلم يعد مثلا للمشتري مجال للتمسك ضد الطرف البائع بإبطال العقد على أساس الغلط مثلا إلا إذا كان دافع إلى التعاقد ومما يعذر منه، أما إذا كان غير دافع فإن العقد يكون صحيحا، وهذا إجحاف في حق من وقع في الغلط، لأنه يجد نفسه ملزم بتنفيذ العقد حتى وإن كانت إرادته معيبة.
فالقواعد العامة التي كان معمولا بها والتي تستدعي على كل متعاقد أن يتحرى بنفسه عن ظروف العقد، لم تعد قادرة على مجابهة التطورات القانونية والتقنية في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية أصبح معها الافتراض القائل بأن “كل متعاقد يملك من القدرات ما يخوله أن يدافع عن مصالحه” افتراضا متجاوزا، الشيء الذي دفعني إلى التفكير في البحث عن آلية ووسيلة قانونية ناجعة لحماية المتعاقدين خصوصا في مجالات المعاملات العقارية والتجارية، فالطرف البائع عندما يعتزم البيع فهو يكون في غالب الاحيان جاهلا للالتزامات الضريبية التي يتحملها وكذا الإجراءات الإدارية والتقنية التي عليه سلوكها، ونفس الشيء بالنسبة للمشتري فهو كذلك قد يتعذر عليه الإلمام بالقيود التي تثقل العقار المراد شراؤه كالارتفاقات القانونية والتحملات الضريبية، أو تلك العقارات التي يقع باطلا بطلان مطلق شرائها وغيرها من الأمور التي لا يفقه فيها إلا المتخصص الملم بقواعد المهنة، كحالة الموثق والعدل الذين لديهم من المعلومات القانونية والخبرة بالمساطر والإجراءات الإدارية ما يجعلهم يعلمون أمورا لا يمكن أن يعلمها كثير من الناس في المجتمع.
وقد تموقعت إشكالية البحث حول مدى توفق المشرع المغربي في تنظيم واجب إسداء النصح ؟
هذه الاشكالية هي عصارة لمجموعة من التساؤلات التي يثيرها الموضوع ذلك أن عدم التنصيص على إلزام العدل بواجب إسداء النصح بمقتضى نص صريح لا يقبل التأويل، خلافا لما فعله مع الموثق بمقتضى المادة 37 من قانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق، دفعني للبحث عن أساس قانوني يلزم العدل بهذا الواجب، محاولا بذاك تجاوز الرأي الكلاسيكي القائل بأنه مجرد التزام أخلاقي.
صحيح أنه تم التنصيص في المادة التاسعة من القانون الداخلي للهيئة الوطنية للعدول على كون العدل ملزم بتقديم النصح لأطراف العلاقة التعاقدية، إلا أن الإشكال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو مدى إلزامية هذا النظام الداخلي للعدل؟ وهل يحق للطرف المتضرر الإرتكان له من أجل مساءلة العدل؟ وبمعنى أدق مدى إلزامه لمرفق القضاء؟
وهل استقراء نصوص قانون 16.03 المتعلق بخطة العدالة وكذا بعض القوانين الخاصة من قبيل قانون حماية المستهلك والقوانين العقارية وغيرها، تمكننا من استنباط حكم ضمني يلزم العدل بهذا الواجب؟
وبعبارة أدق ما مدى توافر مبدأ الشرعية في مساءلة العدل لعدم إسداء النصح؟
وبالرغم من تنصيص المشرع على التزام الموثق بنصح أطراف العلاقة التعاقدية، إلا أنه أغفل رسم حدودا له لا من حيث الجهة الدائنة بالنصح ولا من حيث الحالات التي يكون ملزما فيها بإسداء النصح، عن تلك التي يعفى منها بالقيام بهذا الواجب؟ وهل هو واجب مطلق أم خاص بالعقود الرسمية دون العرفية ؟
ـ إضافة إلى كونه أغفل التنصيص عن طبيعة هذا الالتزام هل هو مجرد التزام أخلاقي أم هو التزام قانوني؟
وإن كان التزام قانوني هل هو التزام بتحقيق نتيجة أم مجرد التزام ببدل عناية؟
وما هي طبيعة المسؤولية المدنية للمدين المخل بهذا الالتزام ؟ هل هي عقدية أم تقصيرية ؟ وعلى من يقع عبئ إثباتها ؟
وهل إخلال المدين بالنصح بواجبه وقيام مسؤوليته يخول للطرف المتضرر مسائلته مدنيا لطلب التعويض عما لحقه من ضرر؟
وهل يمكن الحديث عن تعويض مزدوج ؟ وماذا مدى مشروعيته؟ “خاصة أن هناك غرامة منصوص عليها في قانون حماية المستهلك لكل مخل بالالتزام بالإعلام إضافة إلى التعويض المدني عن الخسائر التي يمكن أن تطال المتضرر جراء الإخلال بواجب النصح”
ومن أجل الوقوف على بعده الحمائي لابد من التساؤل عن مدى استحضار هذا الواجب أثناء ممارسة العملية التوثيقية؟
وبعبارة أدق ما مدى تأثير هذا الواجب على ضبط المعاملات العقارية والتجارية باعتباره أساس بعث الثقة في نفوس المتعاقدين وكذا حفظ الأنساب والحقوق في إطار الأحوال الشخصية؟
وما هي الأثار التي قد تترتب عند الاخلال به، خاصة تلك المتعلقة بأطراف العلاقة التعاقدية فيما بينهم أو بينهم أو أحدهم وبين المدين بالنصح، وكذا تلك الأثار الواقعة على العقد؟
وهل ثبوت مسؤوليته يؤثر على صحة العقد ؟ وبعبارة أخرى هل يحق للمتضرر طلب إبطال العقد على أساس انعدام النصح؟ وهل هذا الإبطال هو إبطال للتصرف أم إبطال للعقد كمحرر رسمي؟
كل هذه الأسئلة وغيرها التي يثيرها الموضوع حاولت الاجابة عنها في بحثي المتواضع راجيا من العلي القدير ان يجزي خير الجزاء كل من ساهم فيه من قريب او بعيد.
اضف تعليقا