تجتاز المهنة مرحلة عصيبة ومحنة حقيقية، وتتعرض للابتزاز ويسفه مطالبها المشروعة وأحلام ممتهنيها الخصوم والأعداء وشذاذ الأفاق.
لا تكاد تخرج من حصار تشريعي وقيود قانونية حتى يحل بساحتها العشرات … ويفتح الباب على مصراعيه لمشاريع الفشل والإفلاس.
وبوصاية قوم ساموها الخسف ومنعوها النصف.. بدعوى الخصوصيةوالمرجعية الدينية مما أعطى الامتياز والولاء للمنافسين الأقوياء الذين يتقنون فن “المواكلة الحسنة والمشاربة الجميلة” لأصحاب القرار الذين يمارسون في حق العدول سياسة “المجالدة في القبيلة” من أجل جلب العطاء والغنيمة من حاضرة المعاصرة.”
وازدواجية التوثيق في المغرب يذكرني بتفاوت ميزان القوى بين “القيسية واليمانية”، والسلطة لمن له العطاء والجاه.
و”الجاه مفيد للمال” كما يقول ابن خلدون.
وهذا كارل ماركس أيضا يقول:”إن اليهودي الذي لا يحسب له حساب في فيينا هو الذي يقرر بقوته المالية مصير النمسا كلها، واليهودي الذي يكون في أصغر الولايات الألمانية محروما من الحقوق، هو الذي يقرر مصير أوربا بأجمعها.”
وإذا استمر هذا العِوج التشريعي، فلا تنتظر إلا ضمورا مهنيا أسوأ من ضمور الأجسام، وعجزا توثيقيا أنكى من عجز الحواس المشلولة.
وكأني بهذا الواقع البئيس أمام تركة مفلس قرر الانسحاب من سوق التوثيق وزحام التعاقد.
والذي يغلغل النظر في العلل التشريعية والقانونية لهذه المهنة يلحظ على عجل أنها تتنفس وتشتغل في بيئة مهنية خانقة، وأن تغذيتها النفسية والفكرية والاجتماعية رديئة أشد الرداءة.
وهي بيئة مهنية لا تفقد فحسب عناصر الحيوية والنشاط، بل إن في بعض أجزائها عفونة وفي البعض الآخر سموم؟ !!
فقد خارت قوى هذه المهنة وتعثرت خطاها في سوق المنافسة وميادين التعاقد .. ولكني متفائل .. متفائل ومن البشائر الدالة على أن أمر هذه المهنة – التوثيق العدلي والعدول- إلى نهوض ويقظة بإذن الله هو التحام أبناءها وتكثلهم.
ولسنا بدعا من بعض المهن – بل الحرف- التي عانت مثل ما عانينا أو أشد، ولكنها لما أجمعت أمرها، وصح منها العزم على تغيير مابها، وعلى تحديد مصيرها وبوصلتها خرجت من أزمتها ومآسيها وحققت مكانة عالية وعزيزة في المجتمع.
ومما يؤكد أن “المارد العدلي” بدأ يتململ ويوشك أن يخرج من قمقمه، هو التوصيات التي خرجت بها الجمعية العامة للسادة العدول، التي نصت على جملة من القرارات الاستراتيجية الكبرى، نظنها خريطة طريق رسمها الجميع لتحديد مصير المهنة ومستقبلها.
وأملنا في الكريم الوهاب – لا اله إلا هو- أن يمن على هذه المهنة بالتمكين والرشاد والنجاح والإصلاح الشامل الناصع، لا الأعرج والمعوق، إن رؤيتنا إلى الحاضر والمستقبل بحاجة إلى تجديد ووعي بالثوابت والمتغيرات، بحاجة إلى فقه المصالح والمفاسد، وإلى فقه المراتب والأولويات … نعم نحن بحاجة إلى تنقية مستمرة.
وليس هناك أخطر من فساد التوجيه – والرأي- سواء حسنت النيات أم ساءت: “كما قال محمد الغزالي رحمه الله”
نعم سياسة تسميم الآبار التي رسمها خصوم وأعداء المهنة طوال السنون والعقود أتت أكلها المر، فأثمرت عقلية عدلية جماعية مضطربة مهزوزة حائرة تعيش دون وعي صحيح ويقين ناضج وبرنامج وخطة واضحة المعالم والأهداف.
وحالنا يذكرني بقولة شهرية لأحد العلماء المعاصرين:”إن شعوب أوربا وأمريكا تعرف عن البترول العربي أكثر مما تعرف عن القرآن العربي”.
فهل يدرك السادة العدول الكنوز المدفونة بأرض مهنتهم؟ !
وهل يستطيعون استخراجها واستغلالها لأنفسهم؟ !
الأمل الكبير يتحقق دائما، عندما يتشبث أصحاب المبادئ بالحق والصبر ومواصلة الكفاح والنضال.
لقد قرأت – هذه سنوات وأنا طالب جامعي- نصيحة حسنة أحب أن أسوقها إلى إخواني وزملائي العدول، كي يفيدوا من عمقها وصدقها في هذه اللحظة التاريخية العصيبة نصها:”قد يكون الحق معك .. ولكنك لا تحسن الوصول به .. ولا تجيد الدوران معه على منعطفات الطريق، لتتفادى المآزق، وتتخطى العقبات، وتبلغ به ما تريد.
وقد يكون الباطل مع غيرك ولكنه يلبسه ثوب الحق .. ثم يجيد الانطلاق معه حتى يصل به إلى حيث ينبغي أن يصل الحق.
وترى أنت ذلك فتتألم له تألما قد يكون ساكنا فيعزلك عن المجتمع .. وقد يكون صاخبا فتتضاعف معه أخطاؤك، فيتنكر لك الناس .. كل ذلك والحق معك والباطل مع غيرك.
وقد يسوؤك تنكر الناس لك فتتبرم بالحياة والناس، وتصير إنسانا ساخطا متشائما، ناقما على الجميع، ثم على نفسك وعملك، ويخسرك الجميع.
ولا أطلب منك أن تجيد الالتواء والانثناء حتى تصل بحقك إلى مبتغاك، ولكن أطلب منك أن تثابر وتتشبت بالحق.. وتناضل في سبيله .. وتؤمن أن العاقبة حتما لهذا الحق.”
لقد شاء القدر الأعلى أن يمحص العدول في هذا الظرف العصيب تمحيصا نرجو معه حسن العقبى، فرب ضارة نافعة، “وربما صحت الأجسام بالعلل، وربت الأمم على الآلام والمتاعب”.
وفي الختام: لا يمكن تحقيق الإصلاح وسط خمول المحيط المهني والقضائي والسياسي تجاه المهنة فالكل مرتبط، ولا يمكن للسادة العدل أن يصحوا وينشؤوا ويتقووا في “قارورة مغلقة” أو في “الهواء المعقم”، بعيدا عن تأثيرات ما يجري في باقي المهن والقطاعات الأخرى.
نريد عدولا أشداء على المهمات لا عدولا ذوو نفوس رخوة وعقول جافلة.
والآمال العريضة لا بد لها من نفوس عالية.
لابد للمهنة من رحال لا يستريحون، ومن فرسان لا يترجلون. فهذا سفيان الثوري سأله ولده فقال: يا أبت لماذا إذا تكلمت أبكيت الناس؟ ! فأجابه رحمه الله إجابة القلب الذي لذعته الحرقة .. فقال:”يا بني إن النائحة الثكلى ليست كالنائحة الأجيرة.”
وهمك يكمل همتك، و”الراحة للرجال غفلة” كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-
وفي صحيح البخاري: باب “يفكر الرجل الشيء في الصلاة” وقال عمر رضي الله عنه:”إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.” ج1/48.
فهل تجهزون أنتم – إخواني وزملائي العدول- خططا ومقترحات في صلواتكم تساهمون بها في دفع المهنة إلى المعالي وإيصالها إلى ما تحلمون به؟ ! أم يغني عن رغيف الخبز والطعام.. القشر والفتات؟ !
قليل منك يكفيني ولكن *** *** قليلك لا يقال له:قليل.
“نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها …”
وللنهوض والريادة مستلزمات ألخصها في ما يلي:
1. الايمان العميق بالقضية.
2. علو الهمة.
3. الصبر والتحمل.
4. التخطيط والبرمجة.
5. استشعار المسؤولية.
6. التنظيم والإبداع والمبادرة.
7. تحديد الأهداف وحصر الوسائل.
8. التجرد عن الأهواء والذاتية والتعصب.
فإذا كانت هذه الضوابط والمستلزمات خريطة الطريق للهيئة الوطنية وقواعدها في نضالها ومعاركها لانتزاع حقوقها لا شك أنها ستتمكن بعون الله من الصمود أمام هجمات الأعداء المتربصين.

وتحسب أنك جرم صغير *** *** وفيك انطوى العالم الأكبر.
فليكن زادنا تقوى الله، وليكن هجيرنا لا اله الا الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
فإذا انتهيت أخي من القراءة ..
-موافقا أو مخالفا- لا تنساني من دعائك فبركة ذلك مرجوة ونفع الله بي وبك آمين والحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد السلام ايت سعيد