بسم الله الرحمان الرحيم.

الحضور الكريم؛

بكثير من الاعتزاز والافتخار أشارك معكم اليوم في أشغال هذه الندوة الوطنية حول موضوع “إصلاح مهنة التوثيق وفق المستجدات التشريعية وتحديات الاقتصاد الرقمي”.

وأعتقد أن موضوع هذا اللقاء من المواضيع ذات الأهمية القصوى راهنيا ومستقبليا، لارتباطه بمهنة التوثيق بالمغرب وبدورها الأساسي في تحقيق الأمن التعاقدي وحماية الملكيات وضمان استقرار مختلف المعاملات، وتشجيع الاستثمار والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فالشكر موصول لمن فكر وأعد أو ساهم في تنظيم هذا الملتقى المتميز، وأخص بالذكر المجلس الوطني لهيئة الموثقين بالمغرب ورئيسه الأستاذ الفاضل عبد اللطيف يكو، وأعضائه الأجلاء من موثقات وموثقين. سيما بالنظر لراهنية المواضيع المقترحة للدراسة والمناقشة في هذه الندوة التي نتمنى لها النجاح. ذلك أن اختيار منظمي هذا الملتقى لموضوع “إصلاح مهنة التوثيق وفق المستجدات التشريعية وتحديات الاقتصاد الرقمي”، يعد اختيارا موفقا بما سيطرحه للنقاش من تحديات تواجه مهنة التوثيق، كما تواجه كافة آليات العدالة، وفي أفق الرقي بمهنة التوثيق وجعلها مواكِبَةً للمتطلبات الحديثة في مجال رقمنة الخدمات القانونية والقضائية من جهة، ومواكبة الدينامية التشاركية التي تأسست من خلال ورش إصلاح العدالة من جهة أخرى، والتي تقتضي انخراط كل مكونات العدالة في مخطط للإصلاح يتوخى الاستجابة لحاجيات حماية المواطنين وحقوقهم، لاسيما الحق في الملكية وأمان المعاملات التجارية والعقارية.

حضرات السيدات والسادة؛

إن نظام التعاقد يعد أداة سياسية وقانونية من أدوات تحقيق التنمية، لأنّه يحقق استقرار المعاملات ويصون الحقوق. وهي قيَّم لا يجب أن يؤثر في ثباتها واستمرارها التطور الاقتصادي والاجتماعي وهيمنة العالم الرقمي الافتراضي، وما يرافقه من تحولات تمس بشكل الوثيقة وكيفيات التعاقد التي باتت تجنح نحو الشكل الرقمي والتكنولوجي وتتسم بالسرعة والفورية. وهو ما يتطلب المواكبة القانونية والمرافقة في التطبيق العملي للإلمام بشروط وظروف المحررات الإلكترونية والصور الجديدة للمسؤولية العقدية ونظام الإثبات.

ولذلك فإن تحديث مهنة التوثيق باعتماد وسائل التكنولوجيا الرقمية يعتبر ضرورة أساسية في الوقت الراهن، الذي يشهد انخراط المغرب بقوة في مسلسل التحديث عبر اعتماد تقنية المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة بهدف تطوير الاقتصاد الرقمي، وتحسين مناخ الأعمال وجلب الاستثمارات الوطنية والدولية، وكذا إسوة بما اتجهت إليه هيئات التوثيق في العديد من الدول، نظرا لما توفره الرقمنة من دقة في التسجيل، وسرعة في التداول، وسهولة في الولوج والحصول على المعلومة، بالإضافة لما ينتج عن استعمالها من اقتصاد في الوقت واختصار للمسافات.

ومما لا شك فيه أن إدراج الوسائل الالكترونية في تسيير حسابات الموثقين والتبادل الرقمي للمعلومات المتعلقة بحساباتهم، وتبادل المعلومات مع المؤسسات الفاعلة في إتمام عملية انتقال الملكية وإنشائها، ولاسيما مع إدارة الضرائب والتسجيل والمحافظة العقارية وصندوق الإيداع والتدبير، سيكون ضمانه إضافة حقيقية وفعالة لحماية حقوق الأطراف.

كما يطرح الموضوع أيضا للنقاش إمكانية وكيفية إنشاء وتلقي العقود بطريقة إلكترونية، وما يتطلبه ذلك من وسائل تقنية وموارد مالية وبشرية وكذا من مقتضيات قانونية أو مراجعات تشريعية.

حضرات السيدات والسادة؛

إن الأهمية التي يحظى بها نظام التوثيق تنبع من ارتباطه الوثيق بصون تعاقدات الأفراد ، فالموثق مدعو بذلك إلى تحري الدقة وبعد النظر لتفادي كل نزاع محتمل حول بنود العقد ومضامينه ليظل العقد أداة للوقاية من المنازعات المستقبلية حاميا لحقوق الأفراد ومصالحهم محققا بذلك ضمانة لاستقرار المعاملات وازدياد فرص الاستثمار مسهما في النمو الاقتصادي والازدهار الاجتماعي.

كما أن الموثق مدعو للتصدي لكل مظاهر التلاعب بالحق في الملكية العقارية، لاسيما في ظل تفشي الاستيلاء على عقارات الغير بطريقة غير مشروعة، والتطور المتزايد لأساليب النصب والتزوير المستعملة من قبل بعض العصابات الإجرامية المتخصصة في السطو على العقارات.

ووعيا بأهمية دور مؤسسة التوثيق كحام للأمن العقاري- نستحضر هنا توجيهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الوطنية حول موضوع السياسة العقارية للدولة ودورها في التنمية الاقتصادية والتي جاء فيها :

“لا يخفى عليكم أن العقار يعتبر عامل إنتاج استراتيجي، ورافعة أساسية للتنمية المستدامة بمختلف أبعادها. ومن ثم، فالعقار هو الوعاء الرئيسي لتحفيز الاستثمار المنتج، المدر للدخل والموفر لفرص الشغل، ولانطلاق المشاريع الاستثمارية في مختلف المجلات الصناعية والفلاحية والسياحية والخدماتية وغيرها.

وبالإضافة إلى ذلك، فهو محرك ضروري للاقتصاد الوطني، لأنه يوفر الأرضية الأساسية لإقامة مختلف البنيات التحتية، والتجهيزات العمومية. كما تنبني عليه سياسة الدولة في مجال التعمير والتخطيط العمراني، وهو الآلية الأساسية لضمان حق المواطنين في السكن”. انتهى النطق الملكي السامي.

حضرات السيدات والسادة؛

يتضح مما تقدم بجلاء ما يتميز به دور مهنة التوثيق من بعد استراتيجي مرتبط بالتطور الاقتصادي والتنموي للمملكة، وما له من أثر في استقرار المعاملات ومنع المنازعات وحفظ الحقوق.

ومهنة التوثيق محكومة في ذلك بمنظومة القيم الأخلاقية التي كرستها الأعراف والتقاليد وسطرتها القوانين المنظمة للمهنة.

فالموثق ملزم في سلوكه المهني بمبادئ الأمانة والنزاهة وما تقتضيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد المهنة المرتبطة بالكرامة والاستقامة.

وذلك نعتقد أن الهيئة الوطنية للموثقين مدعوة إلى التصدي بحزم إلى كل ما يمكن أن يلوث شرف المهنة ومركزها في المجتمع. والبحث عن حلول، واقتراح التدابير الكفيلة بصيانة حقوق المتعاقدين – سيما مع تكرار بعض حالات المس بالودائع من طرف بعض الموثقين. وهو ما يمس بصورة مهنة التوثيق الشريفة، ويضر بسمعة الشرفاء من النساء والرجال القائمين بها، والذين يعتبرون مستودع أسرار المتعاقدين والمستأمنين على أموالهم وأملاكهم وهي صورة يتعين على كل الموثقات والموثقين الدفاع عنها وتقتضي من هيئاتهم المهنية التصدي لجميع ما يمس بها، ولكل من يخدشها. وقد آن الأوان للبحث عن حلول جوهرية للوقاية من هذا النوع من الانزلاقات السلوكية الفردية، التي تضر بالصورة الجماعية للمهنة. وفي رأينا فإن المشرع مدعو بالضرورة إلى إيجاد الميكانزمات اللازمة للحفاظ على ودائع المتعاقدين وحفظ حقوقهم. وأرجو أن يتم ذلك بتنسيق مع الهيئة الوطنية للموثقين وباستحضار المنظور الشمولي لإصلاح منظومة العدالة بالبلاد، والتي تعد آلية حقيقية للتنمية الاقتصادية التي لن تتم بدون توفير الثقة للمستثمرين بواسطة نظام تعاقدي سليم.

حضرات السيدات والسادة؛

لا يفوتني في ختام كلمتي أن أتقدم بأسمى عبارات المودة والتنويه للسيد رئيس هيئة الموثقين وكافة أعضائها ولجميع الموثقات والموثقين، وأن أتمنى لكم المزيد من التوفيق والنجاح لما يخدم المصلحة العليا لبلدنا زاد الله في أمنه واستقراره وازدهاره.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.