قبل تناول مبحث الإعتصار موضوعا فقهيا وقانونيا أشير إلى أن هذا الموضوع يكتنفه التعقيد والغموض لدى عامة المرتفقين الذين نستقبلهم بمكاتبنا، ولذلك فإنه يحتاج إلى  مزيد من استفراغ الوسع الفقهي والتأسيس والتقعيد القانوني لتوضيح أحكامه وقواعده ومقاصده التشريعية.

 فالإعتصار يعتبر من الحقوق التي خولها المشرع والفقه على حد سواء للواهب الأب أو الأم ، في الهبة فقط ولم يجزها في الصدقة ، ويقصد به رجوع المعطي في عطيته على الشخص المعطى له .  فأحكام الإعتصار فرع من أحكام الهبة، ولذا فإن المنطق المنهجي يقتضي التعريج  على أحكام الهبة بإعتبارها أصل  الإعتصار .

فالهبة تعتبر من العقود الرضائية التي تنشأ بإرادتين : الطرف الواهب والطرف الموهوب له . وهي تبرع وعطاء يقوم به الشخص لفائدة طرف آخر رغبة في إكرامه ومساعدته.

وعقد الهبة عقد من عقود التبرع مثل العمرى والصدقة والوقف والنحلة وغيرها ، يترتب عليها انتقال تملك الرقبة أو المنفعة من ملكية الواهب إلى ملكية الموهوب له انتقالا تاما ورسميا وبدون عوض ، ولا تقع إلا بين الأحياء المتوفرين على الأركان والشروط اللازمة لصحة الإلتزام الناشئة عن التعبير عن الإرادة ، مثل الأهلية والتعبير الصريح عن الإرادة وغيرها المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود من الفصل 2 الى الفصل 56 ، ولا يشمل الطرف الثاني الذي هو الموهوب له المستفيد من الهبة ، فسواء كان قاصرا أو ناقصا للأهلية بمرض أو غيره فإنه يجوز له قبول الهبة من الواهب أو أي تبرع آخر ، والموافقة عليه ولو بغير موافقة ومساعدة أبيه أو وصيه أو المقدم عليه ، وله أن يقبل كل ما من شأنه أن يجلب لنفسه نفعا أو يكون سببا في إثرائه وتحسين وضعيته المادية[1] .

وإبرام عقود الهبة لدى السادة العدول أو الموثقين أصبح واجبا وتحت طائلة البطلان – الفقرة الأولى من المادة 273 من م.ح.ع-.

وعقد الهبة من العقود التي يشترط فيها القبول في مذهبنا المالكي ، وتتم بالحيازة ، شريطة أن تقع في حياة الواهب وتمام عقله وصحته من مرض الموت مثلا ، وعدم سفهه أو إحاطة الديون بجميع ماله وإلا بطلت . وهو ما ذهبت إليه مدونة الحقوق العينية والأوقاف – كتاب الهبة للدكتور عبد الرحمن بلعكيد ص 293 – .

وإذا كانت حيازة الهبة الحيازة الفعلية معاينة من الشروط اللازمة والضرورية لصحة العقد بالنسبة للعقار غير محفظ ، فإن التقييد بالسجلات العقارية بالنسبة للعقار المحفظ أو الذي في طور التحفيظ يغني عن الحيازة الفعلية للملك الموهوب به – المادة 274 من م.ح.ع – .

 وبالرجوع الآن إلى موضوعنا نجد أن المقصود بالإعتصار في الهبة هو الرجوع أو استرجاع الهبة من طرف مالكها الأول .

وإذا كانت الهبة والصدقة عطيتان وتبرع لشخص معين أو لمؤسسة من المؤسسات بدون عوض ، فلابد من توضيح الفرق بين العطيتين : فالأولى يقصد بها الإحسان والنفع للموهوب له ، ويقصد بالثانية التقرب الى الله تعالى والأجر والثواب ، ولا يقعان إلا بين الأحياء خلاف الوصية التي تصح حتى لغير الأحياء،  كما سبقت الاشارة إلى ذلك  .

وعقد الهبة أو الصدقة بعقار معين مثلا هو عقد ناقل لملكية هذا العقار بلا جدال .

قال خليل رحمه الله : ” الهبة تمليك بلا عوض ، ولثواب الآخرة صدقة ” .

ولا يجوز للمتصدق استرجاع ما تصدق به مطلقا ، وقد يجوز ذلك للواهب في الحالات المنصوص عليها في المواد : 283-284-285-286-287-288 من القانون 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية الصادر بالجريدة الرسمية عدد : 5998 بتاريخ : 24/11/2011 ، التي تتضمن حق الواهب في اعتصار ما وهبه لأولاده قاصرين كانوا أو رشداء فقط إذا كان أبا أو أما كلما أصبح عاجزا عن الانفاق على نفسه او على شخص تلزمه نفقته ، ولا يخول للأبوين هذا الحق إلا إذا تضمنت بنود عقد الهبة صراحة هذا الشرط ، ويتم التنصيص عليه بالعقد ، وبقبول وموافقة الموهوب له .

وهذا الرجوع في الهبة من الأب والأم على أولادهما ينسجم كذلك مع ما ذهب إليه فقه مالك حيث جاء في المدونة الكبرى : ” قلت هل يجوز في قول مالك لأحد من الناس أن يعتصر هبته في قول مالك جد أو جدة او خال أو خالة أو عم أو عمة أو غيرهم أو يجوز لهم ان يعتصروها ؟ قال لا أعرف ، الاعتصار يجوز في قول مالك لأحد من الناس إلا والدا أو والدة ، ولا أرى ذلك لأحد غيرهما ، وهو مذهب الشافعية أيضا والحنابلة والظاهرية وهناك دلائل وحجج واضحة وصريحة في هذا الباب .

وبالمقابل لا يجوز اعتصار الهبة متى وجد مانع من الموانع التالية :

  • إذا كانت الهبة من أحد الزوجين للآخر ما دامت رابطة الزوجية قائمة ؛
  • إذا مات الواهب او الموهوب له قبل الاعتصار؛
  • إذا مرض الواهب أو الموهوب له مرضا مخوفا يخشى معه الموت ، فإذا زال المرض عاد الحق في الاعتصار ؛
  • إذا تزوج الموهوب له بعد إبرام عقد الهبة ومن أجلها ؛
  • إذا فوت الموهوب له الملك الموهوب بكامله ، فإذا اقتصر التفويت على جزء منه جاز للواهب الرجوع في الباقي ؛
  • إذا تعامل الغير مع الموهوب له تعاملا ماليا اعتمادا على الهبة ؛
  • إذا أدخل الموهوب له تغييرات على الملك الموهوب أدت إلى زيادة مهمة في قيمته ؛

إذا هلك الملك الموهوب في يد الموهوب له جزئيا جاز الاعتصار في الباقي ، وهو ما نصت عليه المادة 285 من مدونة الحقوق العينية. هذا الكتاب الذي أصبح لا غنى عنه للسادة العدول بمكاتبهم .

وتأسيسا على ما سبق  فالإعتصار في الصدقة لا ينتج أي أثر قانوني حول ما تم التصدق به ، طبقا لمقتضيات المادة 291 من نفس القانون التي لا تجيز الإعتصار في الصدقة مطلقا. وهذا ماقرره الاجتهاد القضائي المغربي بمقتضى القرار الصادر عن محكمة النقض بتاريخ : 27/03/2002 تحت عدد: 1089 ، وهو نفس الموقف الفقهي الذي تبنته المدونة الكبرى : ” عن ابن وهب عن يونس عن يزيد عن ابي الزناد أنه قال في رجل تصدق على ولده ثم عقه أله أن يرجع ؟ قال لا يرجع في صدقته . وقال ربيعه ، لا يعتصر الرجل صدقته على ابنه وإن عقه وقاله مالك أيضا  .

 

نستنتج من كل هذا أن حق الاعتصار ثابت للأبوين فقط في الهبة ، ولا يعتبر حقا عاما ومطلقا لهما بل هو حق مقيد بالشروط المشار اليها ، ولا بد من التأكيد أن من بين هذه الشروط أن يشترطه الأب الواهب أو الأم الواهبة على الولد أو الأولاد الموهوب لهم ، ويتم قبولهم له ويضمن ذلك ضمن باقي بنود العقد الاخرى .

وخلاصة القول فإذا كان اعتصار الهبة حقا مشروعا للأبوين على أولادهم كلما كان مطابقا للأحكام والمقتضيات المشار إليها سابقا،  فإنه مع ذلك يبقى فيه الكلام وبعيدا عن أعمال الفضلاء ، وقد ينظر اليه سلبا لا إيجابا خصوصا وأن العملية يتم تنفيذها مع أقرب الناس وهم الأبناء فلذات الكبد ، والكريم يبقى كريما ولا يعود في كرمه ، زيادة على ما قد ينتج عنه  من آثار اجتماعية سلبية على بنية العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة، الأمر الذي يفضي في كثير من الأحيان إلى انفصام عرى المحبة والوفاء والبر، فتتشتت الأسرة وينعدم استقرارها واستمرارها، وهي نواة وأساس المجتمع الإسلامي.

ومع ذلك فإرادة الأطراف تحترم على كل حال ويجب تنفيذها ما دامت لا تخالف القانون ، مع مراعاة واعتبار دواعي الرجوع والدافع إليه الذي قد يكون لمصلحة وفائدة ، والشرع يدور مع المصلحة حيث دارت ، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ، وكم تستوقفني أحيانا بعض عقود الهبة القديمة للسادة العدول الموثقين رحمهم الله تتضمن كذلك من ضمن شروطها حق الإعتصار مدون بجمالية ودقة وإتقان بالصيغة التالية : ” وسلط عليها – الضمير يعود على الهبة – الواهب حق الإعتصار ” مما يدل أن حق الإعتصار كان معمولا به في العقود ومتداولا بين المتعاقدين  .


[1]  – تنص المادة الخامسة من  قانون الالتزامات والعقود على أنه ”  يجوز للقاصر ولناقص الأهلية أن يجلبا  لنفسهما نفعا ولو بغير مساعدة الأب أو الوصي أو المقدم، بمعنى أنه يجوز لهما أن يقبلا الهبة أو أي تبرع آخر من شأنه أن يثريهما أو يبرئهما من التزام دون أن يحملهما أي تكليف.”