(دراسة على ضوء القانون والفقه والاجتهاد القضائي مع رصد لبعض الإشكالات المرتبطة بالموضوع )
ذ -الحسن أولياس
باحث في العلوم القانونية والإدارية
توطئة:
من المعلوم ،أن تنظيم وضبط المعاملات بين الأفراد وفق ما يستلزمه القانون من جهة، ومبدأ استقرار المعاملات من جهة ثانية ، أفرز قيام مؤسستي التوثيق الرسمي والعدلي للعقود، اللتان تجدان أساسهما وسندهما في مرتكزات الشريعة الإسلامية الغراء، فالتوثيق عموما له أهمية ودور بارز في صون حقوق الناس وإقامة العدل بينهم، سعيا لبلوغ ما يصطلح عليه ” الأمن التعاقدي”، والأساس في ذلك قوله سبحانه وتعالى: ” يا أيها الذين امنوا إذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه ولا يابى كاتب ان يكتب كما علمه الله فليكتب …..”، فالآية الكريمة بمثابة الدليل القاطع على وجوب الكتابة والإشهاد على العقود، لما في ذلك من حفاظ وصيانة للحقوق والأموال (1)
وفي نطاق ايراد تعريف للتوثيق من الناحية اللغوية نجد أن لهذا المصطلح معان ودلالات متعددة، فأحيانا يراد به العقد والإحكام، وأحيانا أخرى يأتي للدلالة على التقوية والثبوت، كما قد يراد به معنى الشد والإحكام، (2) وقد يفهم منه أيضا و من زاوية أخرى الأخذ بالوثاقة والوثيقة، كما يمكن أن ينصرف مدلوله على العهد والإيمان.
أما في المعنى الاصطلاحي، فقد وردت بشأنه تعريفات عديدة، لم تخرج في مجملها عن سياق المعاني اللغوية، فنجد ابن فرحون يعرفه بقوله: “هي صناعة جليلة وشريفة وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وحفظ دماء المسلمين وأموالهم، والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم، وبغير هذه الصناعة لا ينال ذلك، ولا يسلك هذه المسالك ”، ويعرفه الونشريسي: “بأنه من أجل العلوم قدرا وأعلاها إنابة وخطرا، إذ بها تثبت الحقوق ويتميز الحر من المرقوق، ويوثق بها، ولذا سميت معانيها وثاقا”. (3)
وحري بالذكر، أن التوثيق العدلي مهنة قديمة قدم التاريخ (4)، ظهرت منذ فجر الإسلام إذ أن هناك العديد من الوثائق التي كتبت في عهد النبي (ص)، وتطورت هذه المهنة في مختلف البلدان الإسلامية، واقترن بروزها في المغرب منذ القرن السابع الهجري، ونظمت بموجب أول تقنين خلال فترة الحماية الفرنسية بموجب الظهير المؤرخ في 7 يوليوز1914 المنظم للقضاء الشرعي ثم ظهير 7 فبراير1944 المتعلق بتنظيم المحاكم الشرعية واو ما قننه هذا القانون ضرورة مسك كل عدل لكناش الجيب يدون فيه العناصر الأساسية للاتفاق،…،(5) ، فالقانون11.81 بتاريخ6ماي1982 المعدل بالقانون04.93،الذي عرف أخر تعديل بموجب القانون16.03الصادر بتاريخ 14 فبراير2006 المنظم لخطة العدالة.
ومن ثمة، فان صفة التوثيق هي صفة ذاتية تسكن لب وجوهر خطة العدالة، فمدار مهنة العدالة هو توثيق المراكز القانونية للأطراف في شتى المعاملات التي ينظمها القانون(6)
واعتبارا للأهمية والمكانة البارزة التي تحتلها مؤسسة التوثيق العدلي، فقد تم إرساء جملة من الضوابط التي ينبغي أن يتحلى بها العدل أثناء القيام بواجبه المهني، ومن أهم تلكم الضوابط حفظ حقوق الناس وأعراضهم وأنسابهم، وإخلال العدل بهذه الأمور أو إحداها يرتب مسؤوليته التي قد تكون مدنية أو جنائية أو تأديبية حسب الأحوال.
هذا، ومن بين أهم المهام الموكولة للعدليين بموجب القانون، تلقي وتحرير الوثيقة العدلية وفق الضوابط القانونية المنظمة لها، حتى تتسم بالشرعية وبميزة الحجة المقبولة شرعا وقانونا، غير أن إعداد الصيغة النهائية لتكلم الوثيقة يستلزم المرور من عدة محطات بدءا من التحمل، فالأداء ثم التلقي مرورا بتحرير الوثيقة من قبل العدليين فالتضمين وأخيرا مخاطبة القاضي على الوثيقة، بمعنى إضفاء الصبغة الرسمية عليها.
وقد أطر المشرع المغربي مسالة تلقي الشهادة أو الإشهاد العدلي من خلال القانون16.03 المتعلق بخطة العدالة بموجب المواد من 27 إلى 32 منه، وألزم العدول بالتلقي الثنائي في أن واحد (7)، ويتم تحرير الوثيقة العدلية وجوبا باللغة العربية سواء كان التعبير عن الإرادة تعبيرا واضحا وعاديا أو بالإشارة المفهمة من العاجز عن الكلام أو السمع إن تعذرت الكتابة، وهذا هو موضوع هذه الدراسة التي سنحاول من خلالها بسط الموضوع من خلال أربعة محاور أساسية تتضمن محورا لإبراز بعض النقط والمفاهيم والإشكالات المرتبطة بالموضوع في إطار سياقه العام ،
تصميم الموضوع:
المحور الأول: الوثيقة العدلية ومراحل تحريرها ومدى ارتباطها بمؤسسة خطة العدالة
الفرع الأول: تعريف الوثيقة العدلية وخصائصها
الفرع الثاني: مراحل انجاز الوثيقة العدلية
المحور الثاني: تلقي الإشهاد العدلي من العاجز عن الكلام أو السمع بالكتابة أو بالإشارة المفهمة
الفرع الأول: قراءة في مضمون المادة 29 من القانون 16.03المتعلق بخطة العدالة
الفرع الثاني: رصد لبعض النصوص القانونية المكرسة لمضمون المادة29 من القانون16.03 بشأن خطة العدالة
المحور الثالث: تلقي الإشهاد العدلي من العاجز عن الكلام او السمع وفقا لأحكام الفقه الإسلامي والقانون المقارن:
الفرع الأول: تلقي الإشهاد العدلي عن طريق الإشارة المفهمة من جانب بعض القوانين المقارنة
الفرع الثاني: مناولة الفقه الإسلامي للشهادة عن طريق الإشارة المفهمة( شهادة الأخرس نموذجا)
المحور الرابع: الإشكالات المرتبطة بواقعة تلقي الإشهاد العدلي بالإشارة المفهمة
الفرع الأول: الإشكالات المرتبطة بمدى قدرة العدلين على فهم للإشارة الواردة من الشخص العاجز عن الكلام أوالسمع
الفرع الثاني: الإشكالات المرتبطة بمدى أهلية العدلين لإثبات أتميه العاجز عن الكلام أو السمع
******************************
المحور الأول: الوثيقة العدلية ومراحل تحريرها ومدى ارتباطها بمؤسسة خطة العدالة
الفرع الأول: تعريف الوثيقة العدلية وضوابطها
– تعريف الوثيقة العدلية:
لم يعمل المشرع المغربي على إعطاء تعريف للوثيقة العدلية، واعتبارا لهذا الفراغ فلا بد من الرجوع إلى التعريفات الفقهية لهذه المؤسسة، فمن الفقه وخاصة الأستاذ محمد القدوري من عرفها بأنها : ” ورقة رسمية يحررها العدلان المنتصبات لتلقي الشهادات وتوثيق المعاملات والاتفاقات وهي إما إن تتضمن اتفاقا أو امرأ تلقاه العدلان بنفسهما مباشرة مثل الإشهادات بالزواج أو البيع أو الوكالة أو الصدقة أو نحو ذلك من العقود، وأما أن يقتصر فيه العدلان على تلقي شهادة غيرهما بشان واقعة معينة، ، كالشهادة باستمرار الملك أو بثبوت ضرر أو بثبوت زوجية” (8)، والشهادة الأولى تسمى أصلية أما الثانية فتسمى استرعائية.
أما الأستاذ محمد خضر، فقد عرف الوثيقة العدلية، بأنها ” كل مادة مسجلة تحتوي على عمل قانوني أو واقعة قانونية، والعمل القانوني الذي هو محتوى الوثائق عمل إرادي يراد به إحداث التزام أو تعديله أو إلغائه، ويمكن الفصل فيه أمام القضاء”، بينما عرفها الأستاذ احمد ألفاضلي بكونها ” الورقة التي يدون فيها ما يصدر من شخص أو أكثر من التصرفات آو الالتزامات ا والإسقاطات أو نحو ذلك، على وجه يجعلها منطبقة على القواعد الشرعية ومستوفية لجميع الشروط التي اشترطها الفقهاء لجعل هذا المدون بعيدا عن الفساد” (9).
وعموما، فالوثيقة العدلية هي وثيقة رسمية يمكن الاحتجاج بكل ما تضمنته في مواجهة الأغيار، وهي بالتالي تشكل حجة كتابية دامغة ومنتجة لأثارها القانونية في حسم المنازعات وحفظ الأعراض والأنساب، بل إنها تكون في الغالب سببا لعدم نشوء النزاعات بين الأفراد بخصوص كثير من الحقوق المحفوظة بموجب تلكم الوثيقة(10)، كما أن إجراءات انجاز بعض أنواع الوثائق العدلية كرسوم استمرار الملك على سبيل المثال يزيد من عنصر الثقة في الوثيقة (11)
وبالتالي فان الوثيقة العدلية، أصلية كانت أم استرعائية والمتوفرة على كافة شروطها الشكلية المتطلبة، إنما تصنف ضمن الوثائق الرسمية (12)، على خلاف الوثائق العرفية التي يقتصر فقط أطراف العقد على تحريرها مع إخضاع توقيعاتهم للمصادقة ليس إلا.
– خصائص وضوابط الوثيقة
غني عن البيان، أن الوثيقة العدلية، يجب أن تكتب بعبارات واضحة لا غبار عليها يفهمها الجميع، وموازاة مع ذلك أخدها بعبارات العدول و مصطلحاتهم حتى لا تخرج عما هو مألوف عليه في فقه ” اللغة العدلية”، وبعبارة اصح صياغة الوثيقة استنادا لما هو متفق عليه بين الفقهاء، واحتراما أيضا لما تؤطره نصوص القانون في هذا الباب بالذات، إذ يتعين على العدلين أن يضمنا الشهادة فصولها الجوهرية التي ينتفي معها كل غموض أو إبهام، ويثبتان بها كل المعلومات والمستندات التي يتعين استيفاؤها، دون اي لبس او بياض أو بثر أو إصلاح أو إقحام أو إلحاق أو تشطيب……(13)
ومن بيانات الوثيقة العدلية:
– بيان الحمدلة والبسملة
– بيان اسمي العدلين ودائرة تعيينهما ومكان وتاريخ تلقي الإشهاد العدلي
– بيان مراجع مذكرة الحفظ واسم العدل الماسك لها
– بيان موضوع الشهادة والشيء المشهود فيه.
– إبراز هوية المتعاقدين والتعريف بهم
– بيان مراجع التضمين بسجلات المحكمة ومراجع التسجيل لدى إدارة التسجيل والتمبر….
– بيان شهادة العدلين والختم والتوقيع وخطاب القاضي على الوثيقة العدلية
الفرع الثاني: مراحل انجاز الوثيقة العدلية
تمر الوثيقة العدلية بعدة مراحل ومحطات بدءا من التلقي، فالتحرير، وهما مرحلتان يختص بهما العدلان، ثم التضمين فالخطاب، إذ يختص الناسخ بالمرحلة الثالثة وقاضي التوثيق بالمرحلة الرابعة، وفيما يلي موجز لهذه المراحل:
1-التلقي: يعتبر التلقي في مجال التوثيق العدلي، بداية ميلاد الوثيقة العدلية ومعناه قيام العدلان بسماع كل ما يصدر عن الشهود بجزئياته وتفاصيله على أن يتم تحرير ذلك في مذكرة ممسوكة من قبلهما، وقنن المشرع المغربي هذه المرحلة الأساسية من خلال القانون 16.03 المتعلق بخطة العدالة بواسطة المواد من 27 إلى 32 منه، فقد نصت المادة27 المذكورة، على ما يلي:
” يحرر العدل الشهادة ويقدمها للقاضي المكلف بالتوثيق في اجل لا يتعدى ستة أيام من تاريخ تلقيها ما لم ينص على خلاف ذلك
تحرر الشهادة بأكملها دون انقطاع، في ورق جيد بكيفية واضحة مخطوطة باليد بمداد اسود غير قابل للمحو او مطبوعة بالحاسوب ويوقعها العدلان اللذان قاما بتلقيها ……….”
من ثمة، فان تلقي الإشهاد العدلي، يعد الخطوة الأولى والبارزة في مسلسل إعداد الوثيقة العدلية كيفما كان موضوع ومجال ارتباطها.
2-التحرير: ذلكم أن العدل أو العدلان لا بد لهما من تحرير كل ما يتم تلقيه من طرف الشهود، في ورقة مستقلة وهذا ما يصطلح عليه ب: ” تحرير الشهادة “، وقد أطر المشرع المغربي ذلك من خلال الباب الثاني من القسم الثاني من القانون أعلاه، (الفصول 33-34 و35).
فإعداد وصياغة الوثائق العدلية لا يتم عبثا، وإنما يستند على جملة من الضوابط المرتبطة والمتصلة أساسا بسمة الوضوح واجتناب اللبس مع مراعاة الدقة في التحرير والصياغة القانونية، والكل في اتجاه عدم القدح في الوثيقة العدلية واعتبارها حجة ناقصة عن درجة الاستدلال الشرعي، بل إن فقدها لبعض الخصائص يجعلها وثيقة مسترابة على حد تعبير الفقهاء.
ومن خلال استقراء مقتضيات هذه النصوص، يتضح أن الشهادة ينبغي أن تكتب في وثيقة واحدة دون انقطاع أو بياض أو بثر أو إصلاح أو إقحام…. الخ، مع ضرورة تذييلها بتوقيع العدليين واسميهما مع التنصيص دائما على تاريخ تحرير الشهادة
3 -التضمين: طبقا للمادة 11 من القانون رقم 49.00 الصادر بتاريخ 22 يونيو2001، بشأن مهنة النساخة (14) فان التضمين هو عملية يقوم بها الناسخ وحده، (15)، والغاية من التضمين حفظ الوثيقة وإتاحة الإمكانية لكل ذي مصلحة من سحب نسخة من الوثيقة العدلية مستقبلا كلما احتاج إليها أودعت الضرورة لذلك، وتختلف عملية التضمين بالسجلات حسب نوع الشهادة (سجل الأملاك العقارية، سجل التركات والوصايا، سجل رسوم الطلاق، سجل باقي الوثائق…). (16).
والجدير بالتذكير في هذا الإطار، أن الناسخ لا يمكنه أن يبدأ الشروع في عملية التضمين إلا بعد المراقبة الممارسة من قبل القاضي المكلف بالتوثيق على الشهادة المحررة.
4 -الخطاب: يعد الخطاب أخر مراحل انجاز الوثيقة العدلية، فالمادة 35 من القانون 16.03 أوجبت على قاضي التوثيق عدم مخاطبته على الشهادة إلا بعد إتمام كافة الإجراءات والتأكد من خلوها من النقص أو اعتلالها لخلل ما، وخطاب القاضي هو الذي يضفي على الوثيقة المحررة الصبغة الرسمية.
وبالتالي، فان الخطاب هو مجموع الكلمات التي يكتبها القاضي المكلف بالتوثيق بخط يده من ذي قبل، وقد تعددت صيغها ومنها: ” الحمد لله اطلع عليه”، ” الحمد لله روقب” والعبارة المتداولة أكثر هي: “الحمد لله أديا فقبلا وأعلم بثبوته”.
وقبل الخطاب على الوثيقة العدلية، تكون هذه الورقة غير تامة ولا تكتسي أية حجية، وتعد بذلك بداية حجة فقط أو حجة غير تامة الأركان(17)، وبالتالي فان خطاب القاضي عليها هو الذي يجعلها حجة شرعية دالة على الحق موضوعها دلالة واضحة من حيث الشروط والأركان.
المحور الثاني: تلقي الإشهاد العدلي من العاجز عن الكلام أو السمع او بالإشارة المفهمة
الفرع الأول: قراءة في مضمون المادة 29 من القانون 16.03المتعلق بخطة العدالة
تطرق المشرع المغربي لتلقي الإشهاد العدلي من العاجز عن الكلام أو السمع أو ما يعبر عنه ب: ” الإشارة المفهمة” في صلب المادة 29 من القانون 16.03 المتعلق بخطة العدالة، وقد نصت تلكم المادة على ما يلي: ” يسوغ تلقي الإشهاد مباشرة من العاجز عن الكلام أو السمع بالكتابة، وإلا فبالإشارة المفهمة، مع التنصيص على ذلك في العقد”
إلا أن مقتضيات هذه المادة مرتبطة أيضا بمضمون الفصل 31 من نفس القانون التي حددت شروط الملتقى منه ومشتملاتالشهادة، إذ ورد بهذه المادة، ما يلي: “يتعين أن تشمل الشهادة على الهوية الكاملة للمشهود عليه، وحقه في التصرف في المشهود فيه، وكونه يتمتع بالأهلية القانونية لهذا التصرف.
يتعين أن تشمل الشهادة أيضا على تعيين المشهود فيه تعيينا كافيا ” .
وهكذا نجد أن المشرع المغربي، قد قنن مسالة أو واقعة تلقي الإشهاد العدلي من قبل الشخص العاجز عن الكلام أو السمع بالكتابة وفي حالة تعذر ذلك بالإشارة المفهمة، الأمر الذي يجعل موضوع تلقي الإشهاد العدلي من قبل هذا النوع من الأشخاص يطرح تساؤلات وتثار بشأنه عدة إشكالات، فالذي لا يعرف القراءة والكتابة هو ” الأمي”، ثم كيف يمكن للعدل في حالة عدم دراية الشخص بالكتابة أن يفهم منه الإشارة الدالة على التعاقد، وكيف له أن يتحقق من أتمية المتلقى منه…….الخ، كلها تساؤلات سوف نقف عليها من خلال المحور الرابع من هذا البحث موازاة مع استجلاء العمل أو الاجتهاد القضائي في الموضوع.
وهنا لابد من الإشارة، أنه سبق للسادة المحافظين على الأملاك العقارية والرهون أن تكرر لديهم التساؤل حول إمكانية اعتماد إشهاد عدلي يشهد عدوله على تلقيه بالإشارة المفهمة، ومدى قابلية الرسم الذي يبنى عليه للتقييد بالسجلات العقارية.
اعتبارا لذلك، صدرت دورية عن السيد المحافظ العام في هذا الإطار، جاء فيها: “
” وبعد لقد تكرر التساؤل، حول إمكانية اعتماد إشهاد عدلي يشهد عدوله على تلقيه بالإشارة المفهمة، ومدى قابلية الرسم العدلي الذي بني عليه للتقييد في السجلات العقارية.
وردا على التساؤل المذكور، وتوحيدا للعمل بينكم، يشرفني أن انهي إلى علمكم انه بالرجوع الى مقتضيات المادة29 من القانون 03/16 المتعلق بخطة العدالة المؤرخ في 14/02/2006، يتبين أنها تجيز تلقي الإشهاد مباشرة من العاجز عن الكلام او السمع او بالكتابة، وإلا فبالإشارة المفهمة مع التنصيص على ذلك في الرسم.
وعليه، فإذا تضمن الرسم العدلي، التنصيص على تلقي الإشهاد بالإشارة المفهمة طبقا للمادة29 الواردة أعلاه، وكذا الهوية الكاملة للمشهود عليه، وحقه في التصرف في المشهود فيه، وتمتعه بالأتمية والأهلية القانونية للقيام بهذا التصرف طبقا لمقتضيات المادة31 من نفس القانون، فانه يمكنكم اعتماده لإجراء التقييد المطلوب متى توفرت باقي الشروط الشكلية والجوهرية المنصوص عليها قانونا….” (18)
لكن رغم صدور هذه الدورية التي تضمنت مجرد إحالات على نصوص قانونية منظمة للموضوع، فان التحليل السليم النقدي لتلكم النصوص سيكشف عن مكامن للضعف فيها يتداخل فيها ما هو مؤطر للعدل القيام به بمناسبة أداء مهامه، وما يستعصي عليه القيام به وحده دون الاستعانة بذوي الاختصاص، وفق ما سيتم توضيحه لاحقا.
الفرع الثاني: رصد لبعض النصوص القانونية المكرسة لمضمون المادة29 من القانون16.03 بشأن خطة العدالة
تم تنظيم مسالة تلقي الإشهاد العدلي من العاجز عن الكلام أو السمع من خلال مقتضيات قانونية أخرى تنظم جملة من المعاملات والعقود، وبذلك فان المادتين 29 و31 من القانون المتعلق بخطة العدالة، ما هي إلا تأكيد لفحوى تلكم النصوص، والتي سنوردها على الشكل التالي:
أولا- على مستوى قانون الالتزامات والعقود:
اعتبر المشرع المغربي في المادة 38 من قانون الالتزامات والعقود أن السكوت يعبر عن رضى الشخص الحاضر لمجلس العقد ولم يبد أي اعتراض على تصرف ماس بحق من حقوقه، إذ نصت المادة المذكورة على ما يلي:
” يسوغ استنتاج الرضى أو الإقرار من السكوت، إذا كان الشص الذي يحصل التصرف في حقوقه حاضرا أو علم بحصوله على وجه سليم، ولم يعترض عليه من غير أن يكون هناك سبب مشروع يبرر سكوته “.”
ثانيا: على مستوى مدونة الأسرة:
1- في عقد الزواج:
تنص المادة 10 من مدونة الأسرة، على ما يلي:
” ينعقد الزواج بإيجاب من أحد المتعاقدين وقبول من الأخر، بألفاظ تفيد معنى الزواج لغة أو عرفا.
يصح الإيجاب والقبول من العاجز عن النطق بالكتابة إن كان يكتب،وإلا فبإشارته المفهومة من الطرف الأخر ومن الشاهدين”
كما أوردت المادة 11 من نفس القانون:
“يشترط في الإيجاب والقبول أن يكونا:
– شفويين عند الاستطاعة، وإلا فبالكتابة أو الإشارة المفهومة….”
2- في الطلاق:
تنص المادة73 من مدونة الأسرة كذلك في معرض بيان أسباب انحلال العلاقة الزوجية وأثاره على ما يلي:
“يقع التعبير عن الطلاق باللفظ المفهم له، وبالكتابة ويقع من العاجز عنها بإشارته الدالة على قصده“.
3- في الوصية:
ينص الفصل 287 من مدونة الأسرة على التالي:” يقع التعبير عن الرجوع عن الوصية بالقول الصريح أو الضمني، أو بالفعل كبيع العين الموصى بها”
كما تنص المادة 295 من نفس المدونة، على الاتي:
” تنعقد الوصية بما يدل عليها من عبارة أو كتابة أو بالإشارة المفهمة، إذا كان الموصي عاجزا عنهما“
ثالثا – على مستوى مدونة الأوقاف:
ورد بالمادة6 من مدونة الأوقاف الاتي: ” يعتبر وقف المريض مرض الموت لازما، ويعطي حكم الوصية طبقا لأحكام مدونة الأسرة”
كما جاء في المادة17 من نفس المدونة ما يلي: ” ينعقد الوقف بالإيجاب
يكون الإيجاب إما صريحا أو ضمنيا، شريطة أن يفي معنى الوقف بما اقترن به من شروط.
ويتم الإيجاب إما بالقبول أو بالكتابة أو بالإشارة المفهومة أو بالفعل الدال على الوقف.
هذه إذن بعض القوانين المغربية التي تعرض فيها المشرع المغربي إلى إمكانية التعاقد عن طريق الإشارة المفهومة، والتي تكرس نفس مقتضيات المادتين 29 و31 من القانون المتعلق بخطة العدالة، ولعل تأكيدها وإيرادها ضمن هذا القانون لفيه جانب من التأكيد على العدل أو العدلين بضرورة التقيد بمضمونها أثناء تحرير الوثائق العدلية كلما كان المتلقى منه الإشهاد عاجزا عن الكلام أو السمع حيث تؤخذ شهادته عن طريق الكتابة وإذا تعذر الأمر يتم العمل بالإشارة المفهمة.
المحور الثالث: تلقي الإشهاد العدلي من العاجز عن الكلام او السمع وفقا لأحكام الفقه الإسلامي والقانون المقارن:
الفرع الاول: تلقي الإشهاد العدلي عن طريق الإشارة المفهمة من جانب بعض القوانين المقارنة
1- الإشارة المفهمة عند إبرام عقد الزواج في القانون الجزائري
تناول المشرع الجزائري انعقاد الزواج بغير الكلام في المادة10 من قانون الأسرة، واقتصر على إيراد حالة الشخص العاجز عن الكلام أو الكتابة. (19)، ولا شك أن مقتضيات هذه المادة تؤكد نفس فحوى مثيلتها في قانون الأسرة المغربي، التي نصت وكما سلف ذكره أعلاه على أن الزواج ينعقد بإيجاب من أحد المتعاقدين وقبول من الأخر، بألفاظ تفيد معنى الزواج لغة أو عرفا ويصح الإيجاب والقبول من العاجز عن النطق بالكتابة إن كان يكتب، وإلا فبإشارته المفهومة من الطرف الأخر ومن الشاهدين.
فقد يتعذر على أحد المتعاقدين، أن يعبر عن إرادته في الزواج وغير ذلك من العقود لوجود حائل أو عائق يمنعه من ذلك، ولهذا اتفق جمهور الفقهاء -وفق ما سارت على ذلك الكثير من القوانين -على انه إذا كان العاقدان أو أحدهما عاجز عن التعبير وكان يحسن الكتابة فانه يعبر عن إرادته بواسطة هذه الأخيرة.
وفي هذا الصدد، فان المشرع الجزائري وفقا للمادة10 المذكورة، أخد بالرواية الثانية عن المذهب المالكي بمعنى انه بإمكان الشخص أن يعقد بالإشارة رغم مقدرته على التعبير بالكتابة،
والمشرع الجزائري، لم ينص إطلاقا على اللغة التي يجب أن يبرم بواسطتها عقد الزواج بل اكتفى بذكر كل لفظ يفيد النكاح شرعا، إضافة إلى انه لم يحدد صيغة الفعل التي يتم التعبير بها عند الإيجاب والقبول،
ومن ثمة، نجد أن للإشارة المفهمة مكانة في التعبير عن الإرادة من خلال المقتضيات المنظمة لمؤسسة الزواج في التقنين الجزائري.
2- الإشارة الصادرة عن الأخرس في القانونين السعودي والسوداني
يلاحظ أن النظام السعودي قد سكت عن صور الإقرار هل يشترط أن يكون الإقرار صراحة فقط أم يجوز بالدلالة أيضا، وهل يكون باللفظ فقط أم يجوز فيه الكتابة للأخرس الذي لا يعرف الكتابة وما حجية الإشارة المعهودة للأخرس،
وعلى عكس القانون المذكور، فان المشرع السوداني الذي نص صراحة في قانون الإثبات، على الصور التي يمكن أن يكون عليها الإقرار وذلك بموجب الفصل 18 حيث نص على أن ” يكون الإقرار صراحة أو دلالة، ويكون باللفظ أو الكتابة، ويكون بالإشارة المعهودة من الأخرس الذي لا يعرف الكتابة.” (20).
3- الشهادة الصادرة عن الأخرس في القانون السوري:
إن القانون السوري لم يمنع الأخرس من أداء الشهادة، فقد نصت المادة83 بينات، على أن من لا قدرة له على الكلام يؤدي الشهادة إذا أمكن أن يبين مراده بالكتابة أو بالإشارة، كما نصت المادتان 306 و307 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على جواز سماع شهادة الأصم والأبكم. (21).
4- شهادة الأعمى والأخرس والأصم في القانون العماني:
نصت المادة 86 من قانون الإثبات النافد على أن للمحكمة قبول شهادة الأخرس والأعمى والأصم، كما تجوز شهادة الشخص على الفعل الذي أتاه، وهذه المادة تقابل الفصل 495 مدني الملغى و83 من قانون الإثبات المصري و83 من قانون البينات السوري، المتطرق إليه أعلاه. (22). فإشارة الأخرس هي لسانه والإشارة وسيلة أصلية في التعبير عن الإرادة عند الأخرس لذلك نصت المادة95 من قانون الإثبات النافد أن من لا قدرة له على الكلام فعليه الإدلاء بشهادته كتابة أو إشارة إن كان لا يستطيع الكتابة، كما جاء في المادة 110 من قانون الإثبات النافد ( يعتبر يمين الأخرس و نكوله عن اليمين بإشارته المعهودة أو بالكتابة إذا كان يحسنها) وعليه يجب على القاضي أن يسال الأخرس فيما إذا يعرف الكتابة أم لا و الأعمى كالبصير في السماع وشهادته للذين يلازمونه وضدهم مقبولة قانونا ولكن لا تقبل شهادته على الغصب لان العلم به هو البصر الذي فقده وشهادته شهادة سماعية يقدرها القاضي كما تجوز شهادة الأصم الأبكم فيما لا يقتضي العلم فيه إلى السماع (23).
الفرع الثاني : مناولة الفقه الإسلامي للشهادة عن طريق الإشارة المفهمة( شهادة الأخرس نموذجا)
أعطى الفقه الإسلامي للإشارات أهمية ومكانة بارزتين في الدلالة على التعبير، وفي هذا الإطار قال الشيخ الأنصاري:” لو عجز أحد عن النطق كفت الإشارة معه…. “، وهو بذلك يعطي للإشارة مقام اللفظ في أحكام الشريعة.
ففي إطار الفقه الإسلامييكاد يكون الإجماع منعقداً في قبول إشارات الأخرس في معاملاته مثل الطلاق والزواج والبيع وغيره من المعاملات، واستبعد الحدود واللعان حيث أن الحدود تدرأ بالشبهات. غير أن قبول إشارة الأخرس لا يتم عن طريق العبث أو محاولة إعطاء أي تفسير لتلكم الإشارة بل لا بد أن تكون هذه الإشارة مفهومة ومعهودة، وقد اعتبر الفقهاء الأجلاء الإشارة بالنسبة إلى الأخرس أداة يستبط منها الفهم تقوم مقام اللفظ في المعاملات. وأشترط بعض الفقهاء كذلك ألا يكون عارفاً الكتابة ولا قادرا عليها ، فإذا كان عارفاً بالكتابة وقادرا عليها فلا تكفي الإشارة لأن الكتابة أدل على المقصود فلا يعدل عنها إلا لضرورة العجز عنها بمعنى آن الكتابة تجب الإشارة المفهمة – وهذا الاتجاه هو الذي أخد به المشرع المغربي كما آن له تأثير واضح على صياغة أحكام المادتين 29 و31 من قانون خطة العدالة ومواد القوانين الأخرى المؤكدة لنفس مقتضيات الفصلين المذكورين – ولا يمكن الحديث عن هذه الأخيرة إلا مع استثناء تعذر الكتابة، وعلى ذلك أعتبر العلماء أن إقرار الأخرس يتم بإشارته المعهودة و لا يعتبر إقراره بالإشارة إذا كان يمكنه الإقرار بالكتابة، وسيرا على المنوال أكد الإمام الشافعي رضي الله عنه في إشارة المريض انه يقبل إقراره إذا كان عاجزا عن الكلام لان إقراره بالإشارة من عاجز عن الكلام فأشبه إقرار الأخرس .
وعلى العموم فإشارة الأخرس مع تكرارها في جل معاملاته، تصبح عند من يعاشره كالحقيقة و اليقين ومماثلة النطق، بل تغدو عندهم بمنزلة الكلام وتقوم مقامه ، وعلى القاضي في حالة عدم فهمه لمقصود إشاراته استدعاء من يترجمه له من أسرته والمقربين إليه – وان كان حضور هؤلاء يثير وجود التهمة في ذلك لوزن ترجمتهم -، كما يجوز استدعاء الخبراء في ذلك لاسيما أن الإشارات للبكم والصم أصبحت علماً يدرس في معاهد متخصصة.
و دائما وفي نفس الإطار، يستدل الفقهاء بجواز إقرار الأخرس وقبول إقراره بقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} . (24)
وفي نطاق الشهادة أمام القاضي، تعد إشارة الأخرس أو العاجز عن النطق بمثابة اللفظ، فقد أشار المحقق الحلي: الأخرس ويبنى على ما يتحققه الحاكم من إشارته، وقال الشيخ الكالبايكاني: أن إشارة الأخرس تقوم مقام اللفظ من غيره، كما ذهب الشيخ برهان الدين ابن فرحون المالكي إلى ابعد من ذلك، فاعتبر شهادة الأخرس ليست كناية عن الموافقة بل هي صريح الموافقة.
وإذا أخدنا على سبيل المثال فقط إشارة الأخرس بالطلاق، نجد ا ن أهل العلم قد اختلفوا في وقوع الطلاق من الأخرس بالإشارة وعدم وقوعه، فالجمهور لا يقع الطلاق عندهم بالإشارة إلا من الأخرس العاجز عن النطق إذا فهمت إشارته، قال ابن مفلح في الفروع وهو حنبلي: ويقع من أخرس وحده بإشارة، فلو فهمها البعض فكناية. وقال البهوتي في المنتهى وهو حنبلي أيضا: فإن كتبه بشيء لا يبين كأصبعه على نحو وسادة أو في الهواء لم يقع؛ لأنه بمنزلة الهمز والإشارة ولا يقع بهما شيء، وهذا في غير الأخرس. وقال السرخسي في المبسوط وهو حنفي: الصحيح لو أشار لا يقع شيء من التصرفات بإشارته ولكنه استحسن فقال: الإشارة من الأخرس كالعبارة من الناطق.
ويقابل قول الجمهور مذهب المالكية إذ يرون وقوع الطلاق بها من الناطق كالأخرس قال خليل المالكي في مختصره: ولزم بالإشارة المفهمة. ونقل المواق في التاج والإكليل لمختصر خليل من المدونة: ما علم من الأخرس بإشارة أو بكتاب من طلاق أو خلع أو عتق أو نكاح أو بيع أو شراء أو قذف لزمه حكم المتكلم. (25)
وحتى في مجال العبادات فان الإشارة تقوم مقام اللفظ، إذ يقول الفقهاء: إذا أرادت الحائض وداع البيت فلا تدخل المسجد ولتودع من أدنى باب من أبواب المسجد وتنصرف، فإذا كان عليها زحمة فتكفيها الإشارة ولا تزاحم الرجال.
مهما يكن من أمر، لا يمكن سوى الجزم عن يقين بكون متون الفقه الإسلامي في نطاق الاعتداد بالإشارة المفهمة، كانت سباقة لمناولة الموضوع كما كان تأثير واضح في صياغة نصوص القانون الوضعي وفق ما تم التطرق إليه في الفرع السابق.
المحور الرابع: الإشكالات المرتبطة بواقعة تلقي الإشهاد العدلي بالإشارة المفهمة
الفرع الأول: الإشكالات المرتبطة بمدى قدرة العدلين على فهم للإشارة الواردة من الشخص العاجز عن الكلام أوالسمع
في هذا الصدد، تثار عدة تساؤلات حول مدى فهم العدلين واستيعابهما للإشارة الصادرة عن المتلقى منه، مهما يكن من أمر، فان فهم العدل لإشارة المعني بالأمر فهما جيدا قد لا يحتاج إلى تأويل يستدعي منه الاستعانة بمن يترجم له المقصود عن طريق الاهتداء إلى ترجمان أو أي شخص من أسرته والمقربين إليه، كما يجوز استدعاء الخبراء في ذلك لاسيما أن الإشارات للبكم والصم أصبحت علماً يدرس في معاهد متخصصة، وهو ما يعبر عنه بعلم السيمولوجيا.
فعلم السيمولوجيا هو الذي يختص بتعليم كل ما هو (لغوي أو غير لغوي)، وهذا هو الفرق بينه وبين علم اللسانيّات الذي يختص بتدريس كل ما هو لفظي ولغوي وهو علم أيضا يتعدى كل ما هو منطوق إلى ما هو بصري، كـلغة الصم والبكم، إشارات المرور، تصميم الأزياء، الشيفرة السرية …الخ (26)، وعلى سبيل التذكير فقط فلغة الصم بلغت أكثر من ثلاثة ملايين إشارة أو علامة أو حركة. (27)
وهكذا، فان أنظمة الاتصال لدى ذوي الإشارة، تعتمد الاتصال الشفوي أو الاتصال الإشاري، ويمكن في هذا الصدد رصد طرق الاتصال المنبثقة عن هذين النظامين وفق الأتي :
1–الأسلوب الشفوي: وهو منهاج يهدف الى تلقين وتعليم الصم وتدريبهم من دون استخدام لغة الإشارة أو التهجئة بالأصابع، فلا يستخدم فيه الاتصال الشفوي سوى في القراءة والكتابة.
2-الإشارات اليدوية المساعدة لتعليم النطق: وهي أشكال وأنماط عفوية من تحريك اليدين، الغاية منها المساعدة في تلقين الأصم اللغة المنطوقة وتتمثل بوضع اليدين على الفم أو الأنف أو الحنجرة أو الصدر للتعبير عن طريقة مخرج حرف معين من الجهاز الكلامي.
3- قراءة الشفاه: ترتكز على الانتباه وفهم ما يقوله شخص بمراقبة حركة الشفاه ومخارج الحروف من الفم واللسان والحلق، أثناء نطق الكلام.
4– لغة التلميح : وهي عبارة عن وسيلة يدوية لدعم اللغة المنطوقة، يستعمل المتحدث فيها مجموعة من حركات اليد تنفذ قرب الفم مع كل أصوات النطق، وهذه التلميحات تقدم إلى القارئ لغة الشافة والمعلومات التي تبين و توضح ما يتلبس عليه في هذه القراءة وجعل وحدات الصوتية غير الواضحة مرئية.
5-أبجدية الأصابع الإشارة أو التهجئة بالأصابع: وهي تقنية الاتصال والتخاطب، ترتكز على تمثيل الحروف الأبجدية وتستخدم غالبا في أسماء الأعلام أو الكلمات التي ليس لها إشارة متفق عليها.
6- طريقة اللفظ المنغم: أسسها “غوبرينا ” اليوغسلافي، وتعتمد مجموعة من الركائز من أهمها أن الكلام لا ينحصر في خروج الأصوات بطريقة مجردة بل إن الكلام تعبير شامل تتدخل فيه حركات الجسم كالإيماء وملامح الوجه والإيقاع والنبرة والإشارة؛ فالمتكلم يستخدم كل إمكانات التعبير.
7- لغة الإشارة: وهي عبارة عن رموز حركية بصرية تستعمل بترتيب ونظام معينين تعتمد بشكل أساسي على استخدام اليدين في التعبير عن الأفكار. ولغة الإشارة هي اللغة الرئيسية للتخاطب مع الصم، وتختلف من مجتمع لآخر بل إن هناك اختلافات قد نجدها في داخل المجتمع الواحد فيما يتعلق ببعض الإشارات المعتمدة.
8- الاتصال الشامل (الكلي): ويعني ذلك استعمال كل الوسائل الممكنة والمتاحة ودمج أنظمة الاتصال والتخاطب كافة السمعية واليدوية والشفوية والإيماءات والإشارات وحركات اليدين والأصابع والشفاه والقراءة والكتابة لتسهيل الاتصال وتيسيره.(28)
استنادا لذلك، كيف يمكن للعدل استيعاب كل هذه الإشارات والحركات ما لم تكن لديه تجربة معترف بها في الميدان أو استعانته بذوي الاختصاص لبلوغ الهدف المنشود، فإذا كان حريا أثناء محاكمة أجنبي لا يفهم القاضي لغته الاستعانة بمترجم، فانه أولى كذلك على العدل الاستعانة بذوي الاختصاص ممن يفسر له إشارة العاجز عن الكلام أو الأخرس أثناء تلقي الإشهاد العدلي عنه – في حالة تعذر الكتابة- صونا لحقوقه وعدم تأويل أو صرف إشهاده في غير المقصود منه وهو الأمر الذي تستوجبه متطلبات الأمن التعاقدي من جهة وحماية الحقوق والأعراض من جهة أخرى.
الفرع الثاني الإشكالات المرتبطة بمدى أهلية العدلين لإثبات أتميه العاجز عن الكلام أوالسمع
على غرار ما قيل عن الإشارة المفهة، يمكن تعميمه كذلك على الأتمية في التعاقد.
فهل العدل أو العدلان مؤهلان للإشهاد بأتميه المتعاقد، علما أن مفهوم ” الاتمية” ينصرف على كون المتلقى عنه الاشهاد العدلي، يتمتع بكامل التمييز وقواه العقلية وغير مصاب بأي مرض يمكن أن يؤثر على ملكة قدراته،
فتضمين الوثيقة العدلية، شهادة العدلين بالأتمية أو ما يعبر عنه أيضا بالاكملية، هو تعبير عن الطوع والرشد وصحة الجسم والعقل معا،
مهما قيل في الموضوع، فان العدل يحكم على الظاهر فقط، أما الباطن فهو من اختصاص أهل الفن والصنعة من الأطباء، ومن ثمة يبقى اشهاد العدل بالأتمية يطرح بدوره علامات للاستفهام، وتزداد حدة الإشكالية حينما يتعارض الاشهاد المذكور، مع شهادة او تقرير طبي يعكس كون المشهود باتميته بالرسم العدلي كان مريضا اثناء ابرامه للعقد(29).
ومن جانب الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض، فقد سبق لهذه الأخيرة ان أصدرت عدة قرارات تسير في اتجاه الإقرار بكون ادراج عبارة الاتمية في العقد العدلي، معناه ان المشهود عليه لم يكن وقت الاشهاد مريضا، فقد جاء في أحد القرارات: ” يعتبر الرسم العدلي الذي يشهد فيه العدلان ” بأتميه” المشهود عليه، حجة رسمية على انه لم يكن وقت الاشهاد مريضا مرض الموت، لا يمكن اثبات عكسها” (30).
كما جاء في قرار اخر: ” التنصيص في العقد على اتمية البائع المريض يجعل البيع صحيحا”، وتم الاستمرار في نفس التوجه حيث أوردت محكمة النقض في قرار اخر: ” الاشهاد على المتصدق والبائع بالأتمية كاف في صحة عقدي الصدقة والبيع”(31)
يلاحظ، ان استعمال عبارة ” بأتمه” في العقود من قبل العدول، هي مهمة لا تساير مناط اختصاصهم، والتي كما سلف الذكر هي من اختصاص الأطباء، وهذا الامر هو الاتجاه الذي تبناه بعض الفقه أيضا، لمسايرته للمنطق القانوني السليم. (32).
خاتمة:
لا يسعنا في الأخير الى التذكير بأهمية التوثيق العدلي في صيانة الحقوق وحفظ الاعراض وتوثيق المعاملات بين الافراد وما لذلك من تأثير على بلوغ الهدف المنشود الا وهو ” الامن التعاقدي”، وقد كان الفقه الإسلامي سباقا لإقرار هذا المبدأ، كما تم التطرق اليه اعلاه
غير ان بلوغ الامن التعاقدي، لا بد ان يكون مقرونا بكافة الإجراءات التي من شانها حماية العدل من جهة باعتباره المحرر للوثيقة العدلية، وكذا الطرف المتعاقد من جهة ثانية، باعتباره المستهدف من وراء التعاقد
ومن ثمة، فان موضوع تلقي الاشهاد العدلي من العاجز عن الكلام او السمع بالإشارة المفهمة – في حالة تعذر الكتابة- ، ما هو الا جزء مهم من هذه المنظومة ، اذ ان العاجز عن الكلام او السمع و ان أتاح له المشرع المغربي التعبير عن ارادته ، فانه في المقابل يتعين تلقي ذلكم التعبير بالكيفية التي ينم عليها دون تأويل أو خروج عن مضمونه وهذا لن يتأتى الا بكون الخبير مؤهل وملم لفهم الإشارة او استعانته بذوي الاختصاص في ذلك ، كما ان التلقي من العدل والاشهاد بأتميه المتلقى منه، يستدعي هو الآخر النظر في المسألة باعتبار أن الأتمية مفهوم ذو صلة بكمال العقل والتمييز وعدم المرض…. وهي كلها مصطلحات مرتبطة بالطب النفسي والعضوي أكثر من ارتباطها بالقانون، علما ان العدل لا يمكنه الحكم سوى على الظاهر اما الباطن فهو من اختصاص اهل الصنعة (الأطباء).
والموضوع أعلاه، ما هو الا محاولة للوقوف على محطة تلقي الاشهاد العدلي عن طريق الإشارة المفهمة، مع رصد لبعض الإشكالات التي تحيط بالموضوع عموما.
الهوامش:
1- عرض تحت عنوان “مسؤولية العدول”، ماستر الاسرة والتوثيق، مدونة المنبر القانوني، الموقع الالكترونيwww.tribunejuridique.blogspot.com
2- لسان العرب، لابن منظور دار الجيل بيروت، صفحات 876-877
3- أبو العباس بن احمد بن يحيى بن عبد الواحد الونشريسي، المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق واحكام الوثائق، دراسة وتحقيق لطيفة الحسني، طبعة وزارة الأوقاف، الرباط 1418/1997 ص209
4- أقدم وثيقة حفظتها كتب الموثقين بالأندلس حررت سنة 211 ه/860 م، وهي صداق يحيى الليثي الاندلسي (الوثائق المختصرة للغرناطي، ص12).
5- انظر المادة2 من ظهير 7 فبراير1944.
6- ” موقع التوثيق العدلي في منظومة الإثبات بين الفقه والقانون” ذ/محمد ساسيوي، مقال منشور بالموقع الالكتروني:www.fiqh.islammessage.com
7- هذا الأمر هو ما أكده قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، غرفة المشورة عدد459 بتاريخ 25/02/1992، إذ اقر على وجوب التلقي الفوري الثنائي للشهادة، مع ضرورة تحريرها فورا وتضمينها توقيع متلقيها (قرار منشور بالموقع الالكترونيhttp://mofawad.blogspot.com)
8- محمد القدوري حيازة العقار كدليل على الملك وسبب فيه، في ضوء الفقه المالكي والقضاء المغربي، دار الأمان الطبعة الثانية 2009، ص 78.
9- مذكور في كتاب الشرح العملي لمركز الوثائق العدلية في نظام السجلات العقارية، ذ/ سليمان ادخول، الطبعة الأولى لسنة2016، ص 25 وما بعدها.
10- انظروا مقال مسطرة إنشاء الوثيقة العدلية، بقلم ذ/ العربي أبو أيوب، ناسخ قضائي بقسم قضاء الاسرة بالمحكمة الابتدائية بالجديدة. منشور بالموقع الالكتروني: Maroc droit
11- المادة18 من المرسوم التطبيقي لخطة العدالة وكذا الدورية 50/س بشأن انجاز رسوم استمرار الملك، إذ لا يمكن إعداد هذه الرسوم إلا بعد تأكد العدل بشهادة صادرة عن السلطة المحلية بان العقار ليس جماعيا ولا ينتمي إلى أملاك الدولة…. الخ
12- أوجبت المادة4 من مدونة الحقوق العينية وتحت طائلة البطلان تحرير جميع الاتفاقات والتصرفات المرتبطة بنقل الملكية أو إنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها او إسقاطها أو تعديلها…في شكل محرر رسمي آو محرر ثابت التاريخ ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك.
13- هذا ما يؤكده الفصل 19 من المرسوم التطبيقي لخطة العدالة عدد 2.08.378 بتاريخ 28 شوال 1429(28 اكتوبر2008).
14- منشور بالجريدة الرسمية عدد4918 بتاريخ19/07/2001، ص 1864
15- ورد بهذه المادة ما يلي:” يعهد إلى الناسخ تحت مسؤوليته يما يلي:
أ- أن يضمن بخط يده وبمداد أسود غير قابل للمحو الشهادة بأكملها طبق أصلها المحرر من طرف العدلين بتتابع الشهادات حسب أرقام وتواريخ تضمينها دون انقطاع أو بياض أو إصلاح أو إلحاق أو تشطيب إلا ما اعتذر عنه، أما البشر فيمنع مطلقا تضمن الشهادات حسب نوعها خلال ثمانية أيام من تاريخ تسليمها إلى الناسخ – ما لم ينص على خلاف ذلك – بعد مراقبتها من طرف القاضي، في أحد السجلات المنصوص عليها في الفصل 25 من المرسوم رقم 2.82.415 الصادر في 4 رجب 1403 (18 أبريل 1983) بشأن تعيين العدول ومراقبة خطة العدالة وحفظ الشهادات وتحريرها وتحديد الأجور كما وقع تغييره وتتميمه.
ب-أن يستخرج من السجلات المذكورة نسخ الشهادات المضمنة والمخاطب عليها“
16- انظروا مقال مسطرة إنشاء الوثيقة العدلية، بقلم ذ/ العربي أبو أيوب، ناسخ قضائي بقسم قضاء الاسرة بالمحكمة الابتدائية بالجديدة. منشور بالموقع الالكتروني: Maroc droit
17- مقال مسطرة إنشاء الوثيقة العدلية، المشار إليه أنفا.
18- دورية المحافظ العام عدد374 بتاريخ11 نونبر2009.
19- تنص الفقرة 2 من المادة 10 من قانون الأسرة الجزائري على ما يلي: ” ويصح بالإيجاب والقبول من العاجز بكل ما يفيد معنى النكاح لغة أو عرفا كالكتابة والإشارة “.
20- مقال تحت عنوان ” مفهوم الإقرار القضائي والغير القضائي وصوره” الموقع الالكتروني:http://www.mohamoon-montada.com
21- “الشهادة والممنوعين من ادائها”، مقال منشور بالموقع الالكتروني:http://www.damascusbar.org/AlMuntada .
22- ” صفة الشاهد في القانون “، مقال منشور بالموقع الالكترونيhttp://www.omanlegal.net
23- محمد علي الصوري، التعليق المقارن على مواد قانون الإثبات /الجزء الثاني مطبعة شفيق، بغداد1983، ص838
24- مشار اليه في مقال” مفهوم الإقرار القضائي والغير القضائي” المشار إليه سابقا
25- حكم الإشارة التي يفهم منها الطلاق إذا صدرت من غير الأخرس، مقال منشور بالموقع الالكترونيhttp://fatwa.islamweb.net
26- أصول التعامل بلغة الإشارة، محاضرة للأستاذ عبد الله بن سليمان التركي تم إلقاؤها في مبنى المكتبة المركزية الناطقة بالرياض، منشورة بالموقع الالكترونيhttp://www.alukah.net/
27- تم توثيق لغة الإشارة في معظم الدول العربية ونذكر منها بعض الدول وهي: مصر، الأردن، فلسطين، ليبيا، العراق، الإمارات، الكويت، السعودية، المغرب، السودان، موريتانيا، قطر، سلطنة عمان، سوريا، لبنان. وتعدى الأمر ذلك إذ أعدت الكثير من الدول العربية قواميس للغة الإشارة الخاصة بها ووضعتها على أجهزة الكمبيوتر وعلى مواقع بالأنترنت لنشرها والتعريف بلغة أبنائهم الصم، كما خصصت أيضا نشرات إخبارية وبرامج تلفزيونية مترجمة بلغة الإشارة.
28- “مقدمة في ثقافة لغة الصم”، مقال منشور بالموقع الالكتروني:www.alwasatnews.com
29- ” الشرح العملي لمركز الوثائق العدلية في نظام السجلات العقارية، ذ/ سليمان ادخول، طبعة2016، ص53
30- قرار محكمة النقض عدد 809 بتاريخ 25/12/1982، في الملف المدني عدد 47497، منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى، الجزء الثاني (المادة المدنية) ص25.
31- قرار محكمة النقض عدد 2567 بتاريخ 20/04/1994 في الملف المدني عدد 987/88، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، العدد48، ص 67-70، أورده ذ/ سليمان ادخول في مؤلفه السابق، ص 53.
32- محمد الكشبور، بيع المريض مرض الموت، الطبعة الأولى 1422/2002م ص 73، أورده كذلك ذ/ سليمان ادخول في مؤلفه السابق ص54.
Leave A Comment