الجمعية المغربية للعدول الشباب واستحضارا منها لواجب العمل الجد من أجل خدمة مهنة التوثيق العدلي ونظرا للظرفية الدقيقة التي تمر منها المهنة وتزامنا مع استئناف جلسات الحوار المتعلقة بتعديل قانون خطة العدالة ومن باب الدعم والمساندة الواجب لهيئتنا العتيدة وسعيا منا لتقويت موقفها؛نظمت بمدينة القنيطرة بتاريخ 05/08/2017 مائدة مستديرة حول “تعديل قانون 16-03 التطلعات والافاق” بمشاركة فعاليات من السادة العدول .وتعميما للفائدة نعيد نشر المدخلات واليوم ننشر مداخلة الاستاذ حسن أوبيدان :
توطئة : أشكر بدوري الجمعية المغربية للعدول الشباب على هذا المجهود الجبار ، والذي من خلاله اجتمعت نخبة من العدول نعتبرها صفوة في سلسلة من المجهودات التي تهدف إلى التخلص من الأزمة التي تعيشها مهنة العُدول.
لو صح أن نتكلم بدون مقدمات ، لحكمنا بكون خطاب القاضي ومؤسسة قاضي التوثيق بما في ذلك مهنة النساخة ، من الأصفاد والمعوقات المكبلة والمُغلة لأعمال السادة العدول.. إلا أنه لا بد من التأسيس لهذا الحكم من خلال مفهوم الخطاب وطبيعته التشريعية والنظر في جدوائيته ورمزيته بالنسبة للمهنة .
لا أجدني هنا محتاجا – في هذه المناسبة – إلى تذكير الحضور الكريم بالجانب الفقهي التأصيلي والسياق التاريخي الذي أسس لمفهوم الخطاب على أنه نقل القاضي لحالة معينة في بلده إلى بلد آخر لكي يُعلم قاضيا آخر ويخبره بأن هذه الوثيقة أو تلك سليمة في المبنى وفي الجوهر والمعنى..لأن هذا المفهوم معروف عند كل المختصين ولدى جميع المهنيين الذين أفنوا حياتهم في ممارسة مهنة لا وجود لها ولا تأثير إلا بوجود الخطاب.
لقد كان أول نص قانوني مغربي أورد تعبير “خطاب القاضي” هو الفصل 418 من قانون الالتزامات والعقود في فقرته الثانية : “…وتكون رسمية أيضا الأوراق المخاطب عليها من القضاة في محاكمهم” . بعد ذلك صدر منشور لوزارة العدل سنة 1947 تحت عدد 6410 يمنع القضاة من التوقيع أو الخطاب على الرسوم إلا بعد إدخالها بكناش الجيب ، بعده صدر منشور آخر سنة 1959 تحت عدد 14714 بشأن طريقة تحرير الوثيقة وتقديمها ، إلى أن تقننت خطة العدالة بصدور قانون 11/81 بتاريخ 06/05/1982 الذي رسخ التنصيص على ضرورة الخطاب على الرسوم العدلية من قبل قاض مكلف بإضفاء الرسمية عليها وبعث الروح فيها ، الشيء الذي كرسه تعديل قانون 16/03 في شهر فبراير 2006 . إلا أن الجامع المشترك والصفة المُرة التي علقت بوثيقة العدل عبر هذا التسلسل الزمني والتشريعي كله ، هو كون العدل لا يمكن أن تكون وثيقته التي يحررها ذات أثر قانوني إلا بتوقيع القاضي عليها وهو ما سُمي بالخطاب.
في غمرة هذا كله ، يحق لنا أن نطرح السؤال التالي : ما جدوى هذا التوقيع (الخطاب) الذي أولاه المشرع كل هذه الأهمية عبر هذه الترسانة التشريعية كلها؟؟
يمكن الحديث عن جدوائية الخطاب من خلال أربع إشارات تمثل في مُجملها الإطار العام الذي موقع فيه هذا الخطاب – كإجراء إداري وقانوني – العدل نفسه باعتباره المسؤول الأول عن هذه الوثيقة موضوع الخطاب :
1 – خطاب القاضي دلالة رمزية وواضحة على عدم أتمية العدل العلمية وكفاءته القانونية : فالعدل بهذا المعنى فيه زلل وضعف ونقص لا يكمله ويُقومه إلا الخطاب.
2 – الخطاب لا يحقق للعدلين أية ضمانة أوحماية قانونية ، حيث لا يتم استحضار عنصر الخطاب ضمن المتابعات والشكايات التي تسجل ضد العدول.. بل تمت متابعة العديد من العدول من خلال وثائق زكاها القاضي المكلف بالتوثيق وخاطب عليها على أنها سليمة في الجوهر والمعنى.
3 – الخطاب يمثل عرقلة لأعمال العدول بالنظر إلى الوتيرة الزمنية المتسارعة ، إن ما يقع فيه المرفق العدلي اليوم من حرج شديد أمام الحالات التي يكون فيها المتعاقد على عجلة من أمره ، وبناء على ما يحيط به من الطوارئ والفرص الناذرة ، يجعل الخطاب أمام المساءلة التاريخية وأمام العدالة نفسها ، إذ تم تسجيل حالات عديدة اضطر معها هذا المتعاقد إلى اللجوء إلى جهات توثيقية أخرى لطف بها المشرع ورفع عنها غل الخطاب ، مما يطرح إشكالية التمييز والحيف التشريعي .
4 – الخطاب وسيلة للذلة والمهانة ، هناك مظاهر مُخلة بأقسام قضاء الأسرة تتخللها العلاقات الشخصية التي تجعل السيد القاضي المكلف بالتوثيق يرفع أقواما ويُذل آخرين بحكم سلطة الخطاب المخولة له قانونا ، ومن مظاهر الذلة في هذا الباب وقوف العدل – المترفع أخلاقيا عن مثل هذه العلاقات – كسائر الوافدين من المتقاضين على مكتبه منتظرا دوره ليظفر بإضفاء الرسمية على أعماله ، وقد لا يظفر بذلك للاعتبارات المذكورة.
بناء على هذه الإشارات التي لا تليق بمهنة تندرج ضمن المهن القضائية التي وضع لها مخطط ضمن برنامج الإصلاح الشامل للقضاء ، فإنه يتعين وضع محددات دقيقة من أجل الاحتكام إليها في الحوار، والتي بإمكاننا تلخيصها في ما يلي :
• الحكامة الجيدة : ونقصد بها توحيد الأجرأة ، وتوحيد المنهج ، وتوحيد المراقبة كتعبير عن الفلسفة العامة التي أسسها الدستور الجديد من أجل إحداث التغيير المنشود والحد من الفساد وسوء التدبير الذي يعاني منه المرفق العام ، ومنه مؤسسة الخطاب.
• المنافسة الحرة والشريفة : كثيرا ما يلجأ المتعاملون في صفقاتهم ومعاملاتهم إلى مرفق عدلي معين بحكم ما يتسم به من الالتزام المهني والثقة والضبط والكفاءة وحسن التعامل والتواصل وسرعة الإنجاز ، إلا أنه وأثناء مرحلة الخطاب وما يحمل معه من معنى إضفاء الرسمية ، سرعان ما تتبخر جهود العدل الحازم النزيه الضابط الثقة ، وتصبح كأنها عنصر ثانوي في “المعادلة الحقيقية” التي أشرنا إليها عند الكلام عن النقطة الرابعة ضمن جدوائية الخطاب. الشيء الذي يجعل عنصر المنافسة الحرة والشريفة كمبدأ أخلاقي ضمن منطوق الدستور الجديد لا مكان له ولا اعتبار.
• المساواة أمام القانون : لا أقصد هنا المساواة العامة في الحقوق والالتزامات، كالحق في الحياة والحق في الأمن الشخصي ، والحق في توفير شروط المحاكمة العادلة ، فذلك أمر بديهي لا يختلف فيه اثنان ، إنما أقصد تحقيق المساواة بين جميع الفئات والمجموعات المهنية في قطاع العدالة وغيرها ، إذ ليس من منطق العدالة أن يتم التمييز بين مهني وآخر تخرجا من نفس الجامعة ويمارسان نفس العمل ويؤديان نفس الخدمة ، بحيث نُثقل كاهل الواحد منهما بالتقييدات والإجراءات والشكليات ونُعبد الطريق أمام الآخر حرا طليقا بعيدا عن الشكليات والتعقيدات المذكورة (المادة 35 من قانون 03.16 في مقابل المادة 44 من قانون 09.32 ).
• تكافؤ الفرص : إنه مبدأ يمثل إحدى البوابات الرئيسة لتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس ، وبالأحرى بين المهن التي تؤدي نفس الوظيفة ، إنه بتعبير أليكسيس توكفيل ، الذي سماه البعض ب “مونتسكيو” القرن التاسع عشر، ((تساوي الشروط أو الأحوال هو مفتاح كل شيء(( . فالخطاب الذي يعرقل مسار وثيقة عدلية بسبب ملاحظة مزاجية أو بسبب أمر أو عنصر يعتبر “خطأ” لكنه في مقابل ذلك هو أمر أو عنصر يعتبر “صوابا” في وثيقة أخرى تصدرها جهة أخرى تؤدي نفس الوظيفة ، ليس إجراء يعكس العدالة التي جاءت لتكرس مبدأ تكافؤ الفرص وتساوي الشروط والأحوال.
إن هذه المحددات ، تجعلنا نؤكد بأنه من السخافة أن يكون منطق الراتب الشهري الذي تحكمه اعتبارات رسمية ، سينجح في احترام منطوق دستور 2011 عند إشرافه على مهنة حرة مثل ما هو محكوم على الوثيقة العدلية وعلى مهنة العُدول بالخطاب.وتتبعنا للغضبة الملكية الأخيرة في خطاب 29 يوليوز 2017 تجاه القطاع العام ترسخ لدينا هذه القناعة ، بل ترسخ لدينا ضرورة صياغة مذكرة بيانية في الموضوع ترفع إلى السدة العالية في إطار حكامة ملكية سامية تروم حماية كرامة المهنة والدفاع عن مكتسباتها التاريخية.
يقول صاحب الجلالة ((ولكننا نعيش اليوم في مفارقات من الصعب فهمها أو القول بها ، فبقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية قاريا ودوليا ، ومن تقدير شركائنا وثقة كبار المستثمرين … بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع بتواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية حتى أصبح من المخجل أن يقال أنها تقع في مغرب اليوم)). وعند إسقاط هذا الكلام على المهنة وعلاقتها بالخطاب يصح أن نقول ((ولكننا نعيش اليوم في مفارقات من الصعب فهمها أو القول بها ، فبقدر ما يحظى به القضاء من مصداقية قاريا ودوليا ، ومن تقدير شركائنا وثقة كبار المستثمرين … بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع بتواضع الإنجازات في مجال التوثيق حتى أصبح من المخجل أن يقال أنها تقع في مغرب اليوم)).
إن المغرب اليوم يعتبر قائدا إقليميا لقارة بأكملها ، وقوة إقليمية للتنمية البشرية المستدامة . (أجندة أفريقيا لعام 2063 المسماة ب “برنامج 2063”) ، وأمام هذا التحدي الاستراتيجي الكبير ، لا يمكن لعدل موثق في إطار مهنة حرة ومستقلة أن يترجم عناصر التجرد والالتزام والنزاهة والقوة التنافسية في سبيل خدمة الصالح العام وضبط الحقوق العامة في ظل إدارة تقليدية نمطية وروتينية.من هنا لا بد أن نهمس في الختام في أذُن الهيئة المسؤولة تنظيما وتدبيرا عن الارتقاء بمهنة العُدول أن تتحرك – وبشكل جريء وسريع – من أجل تحقيق درجة النخبة ، ولن يتأتى لها ذلك من دون استقلال العدل وتكوينه في سبيل تحمل المسؤولية المهنية والأخلاقية الكاملة والفردية في القيام بمهامه ووظيفته. وبالتالي فلا مجال إلى اختباء بعض المتواكلين من السادة العدول وراء الخطاب ، كما قال صاحب الجلالة في معرض حديثه عن الذين يحتمون خلف أسوار القصر الملكي نقول لهم “كفى من الاختباء وراء الخطاب” .والسلام على الحضور الكريم ورحمة الله تعالى وبركاته
الاستاذ حسن اوبيدان
عدل موثق بإستئنافية سطات
Leave A Comment