بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه
السيد رئيس الهيئة الوطنية للعدول
السيد رئيس المجلس الجهوي لعدول استئنافية الرباط
السيد ممثل السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية
السيد المدير العام لصندوق الإيداع والتدبير
السادة المسؤولون القضائيون والقضاة
السيدات والسادة ممثلوا القطاعات الحكومية والمؤسسات الوطنية
السادة رؤساء وممثلوا الهيئات المهنية وجمعيات المجتمع المدني ووسائل الإعلام
حضرات السيدات والسادة:
يسعدني أن أشارككم اليوم افتتاح أشغال الملتقى الوطني الذي ينظمه المجلس الجهوي للعدول بالرباط، بتنسيق مع المكتب التنفيذي للهيئة الوطنية لعدول المغرب تحت عنوان: “مسار مهنة التوثيق العدلي بين مطالب التجديد وأسئلة المرحلة”
ويكتسي هذا اللقاء أهمية بالغة بالنظر لكونه يأتي في سياق تحولات كبرى يعرفها قطاع العدالة لبلادنا عموما، ومهنة خطة العدالة على وجه الخصوص، وذلك بعد الشروع في مراجعة القانون المنظم للمهنة على ضوء توصية ميثاق إصلاح منظومة العدالة وما تفرضه المرحلة من تغيرات ومستجدات.
وأغتنم هذه المناسبة، لأتقدم بالشكر الجزيل إلى كل من السيد رئيس الهيئة الوطنية للعدول، ورئيس المجلس الجهوي لعدول استئنافية الرباط على الدعوة الكريمة لأكون بينكم في هذا الملتقى وفي مجمل اللقاءات المتواصلة بين الوزارة وهيئتكم الموقرة .
حضرات السيدات والسادة :
تزداد الحياة الاجتماعية والاقتصادية تطورا يوما بعد يوم، والعلاقات بين أفراد المجتمع تزداد تشعبا وتعقيدا، وكل ما ازدادت هذه العلاقات اتساعا وتداخلا، زادت إمكانية اصطدام مصالح الأفراد، والأفراد والقانون يرصدان باستمرار هذا التطور والتغيير حرصا على عدم وقوع هذا الاصطدام، ومع ذلك هذا فقد يحدث أن تعتدي البعض عن حقوق البعض بدون وجه حق، لهذا كان على من يدعي حقا أن يثبته، ومن بين الوسائل التي تثبت بها الحقوق الكتابة التي اعتنى بها الفقهاء وأدى الاهتمام بها إلى ظهور علم التوثيق العدلي الذي لعب دورا كبيرا في حفظ الحقوق وإثبات المعاملات، سواء كانت مالية تتعلق بالتجارة والكسب مثل البيع والشراء، أول قربة لله تعالى مثل الهبة والصدقة والوقف، أو تتعلق بالأسرة مثل الزواج والطلاق ونحوهما.
فمهنة التوثيق العدلي صنعة جديدة، ومهنة شريفة تقلدها العلماء الأجلاء والقضاة الأعلام عبر التاريخ الإسلامي المجيد، خلفا عن سلف، وقد قال في حقها القاضي والفقيه المالكي ابن فرحون:
“هي صناعة جليلة وشريفة وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية، وحفظ دماء المسلمين وأموالهم والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم، وبغير هذه الصناعة لا ينال ذلك ,ولا يسلك هذه المسالك”
وقد أولادها الأمراء والعلماء العناية الفائقة، والاهتمام البالغ عبر مختلف العصور، ونالت حظوة كبرى في نفوس عموم المغاربة، وبفضل ذلك عرفت تطورات مهمة سواء على مستوى ممتهنيها أو على ممارستها ومزاولتها حرصا على أن تكون في المستوى المطلوب الذي يواكب المستجدات والمتغيرات التي يعرفها العصر في كل المجالات.
وقد تجسدت المكانة الرفيعة لهذه المهنة ببلادنا في الاهتمام المولوي الشريف بها ، من خلال تعليماته السامية بالسماح للمرأة بممارستها، مدشنا بذلك صفحة جديدة في مسار إصلاح منظومة العدالة وملاءمتها مع الواقع المغربي ومع مقتضيات دستور 2011، خاصة في جانبها المتعلق بالمساواة بين المواطنين والمواطنات في الحقوق والحريات، هكذا وبعد 12 قرنا تلج المرأة اليوم مجال خطة العدالة.
حضرات السيدات والسادة:
دشن المغرب في الآونة الأخيرة مجموعة من الأوراش الكبرى تروم النهوض بالأوضاع السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لبلادنا، ويعتبر ورش إصلاح منظومة العدالة واحدا من بين أهم هذه الأوراش كمنعطف حاسم في مسار المغرب الحديث.
ومما لاشك فيه أن هذا الإصلاح سيؤسس لمرحلة جديدة ستكتسي من خلالها العدالة ببلادنا معالم مغايرة لما كان عليه الواقع من قبل، خصوصا في سياق التحولات الكبرى التي يعرفها الميدان القضائي عقب صدور الدستور الجديد الذي ارتقى بالقضاء إلى سلطة قضائية مستقلة وإخراج السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة إلى حيز الوجود.
وإذا كان الهدف الأسمى من هذا الإصلاح هو تحقيق العدالة وحماية الحقوق في أفضل الشروط وبالسرعة التي تتطلبها حاجة المتقاضين، فقد كان من الضروري تبيان بعض مكامن القصور الذي يعتري النصوص التشريعية المنظمة للمهن القضائية، والصعوبات التي تعترضها وصولا إلى تحديثها وتخليقها وتدعيمها بالنصوص التشريعية المواكبة للتغيرات، والارتقاء المهني بممارسيها من أجل تحسين شروط العمل، سعيا نحو بلوغ غاية إصلاح القضاء في شموليته باعتباره الحصن المنيع لدولة الحق والقانون.
وفي هذا الإطار، تميز الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، الذي أعطى انطلاقته جلالة الملك محمد السادس نصره الله يوم 8 ماي 2012، بعقد 41 اجتماعا للهيئة العليا و11 ندوة جهوية غطت الخريطة القضائية للمملكة، إضافة إلى العديد من الاستشارات الكتابية مع 111 هيئة ومنظمة، و104 ندوة مواكبة على صعيد المحاكم.
ووعيا بأهمية ودور مساعدي القضاء في منظومة العدالة, فقد عملت الهيئة العليا للحوار الوطني على تخصيص الندوة الجهوية الثانية التي احتضنتها مدينة الدار البيضاء يومي 06 و 07 يوليوز 2012 لتأهيل المهن القضائية، وقد كانت مناسبة هذه الندوة لتشخيص واقع المهن المساعدة للقضاء, وتحديد الصعوبات التي تعترضها والناجمة إما عن قصور في بعض النصوص التشريعية المنظمة لها، أو عن سلوكيات بعض المنتسبين إليها .
وقد توج مسار الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، بإصدار ميثاق وطني كخارطة طريق لإنجاز كافة الإصلاحات المرتبطة بالقضاء ومكونات العدالة، حيث خصص هذا الميثاق قسطا هاما من توصياته لإصلاح منظومة المهن القانونية والقضائية، سواء على مستوى التحديث أو التخليق أو التكوين وتأهيل المنتسبين إليها أو على مستوى توفير مؤسسات خاصة بها، مع تقوية قدراتها ودعم آليات تعزيز ثقة المواطن فيها, وإيجاد ضمانات قوية للمتعاملين معها، ومن بين هذه المهن خطة العدالة، حيث نص بشأنها على مجموعة من التوصيات الرامية إلى مراجعة القانون المتعلق بها في اتجاه تعزيز استقلالها والارتقاء بها بما يسهم في تحديثها وتطويرها، وتخليقها من خلال وضع مدونة سلوك تتضمن القواعد الأخلاقية والمهنية التي يجب الالتزام بها قبل المنتسبين إليها، ومع العمل على نشر هذه المدونات، هذا بالإضافة طبعا إلى فتح المجال أمام المرأة لممارسة هذه المهنة.
كما نص الميثاق على إعادة النظر في شروط ولوج المهنة, وتأهيل المنتسبين إليها بما يضمن الارتقاء بمستوى أدائهم، وإحداث مركز لتكوين العدول، واعتماد مبدأ إلزامية التكوين الأساسي لفائدتهم، ووضع برامج سنوية للتكوين المستمر والتكوين التخصصي، والحزم في تطبيق الجزاءات في حق كافة العاملين والممارسين داخل منظومة العدالة ، مع إشهار هذه الجزاءات، وفي هذا الصدد نص الميثاق على إحداث هيئة تأديبية مختلطة لكل مهنة من مهن العدول والموثقين والمفوضين القضائيين والخبراء القضائيين والتراجمة، للبت في الملفات التأديبية للمنتسبين إلى هذه المهن.
وحرصا منها على تفعيل وتنزيل هذه التوصيات تعمل وزارة العدل على مراجعة القانون المنظم للمهنة وفق مقاربة تشاركية مع الهيئة الوطنية للعدول التي تجمعنا معها علاقات تعاون وشراكة قوية مبنية على الوضوح والمسؤولية.
ونحن مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى ضرورة تكثيف الجهود من أجل الإسراع بإخراج إطار قانوني جديد محفز للمهنة وللمهنيين ,يواكب التطورات ويستجيب للمتطلبات ولضرورات المرحلة وما تفرضه من تغيرات ومستجدات.
حضرات السيدات والسادة،
إذا كان إصدار النصوص القانونية والتنظيمية وتوفير الوسائل والإمكانيات من الأمور المادية التي لا يمكن التحكم فيها، وضبط زمن إخراجها إلى حيز الوجود، فإن التحدي الأكبر هو الجانب المرتبط بالتخليق، فكما جاء في خطاب جلالة الملك نصره الله بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لعيد العرش المجيد:
“ومهما تكن أهمية هذا الإصلاح، وما عبأنا له من نصوص تنظيمية, وآليات فعالة، فسيظل الضمير المسؤول للفاعلين فيه، هو المدى الحقيقي لإصلاحه، بل وقوام نجاح هذا القطاع برمته”
ولي اليقين أن هذا اللقاء الذي يجمعنا بكم اليوم، هو تعبير حقيقي عن رغبتنا المشتركة الصادقة في الرقي بمهنتكم وتطويرها والنهوض بها، ولاشك أن مخرجاته ستثري النقاش وأن مقترحاتكم ستكون لها قيمة مضافة إلى هذا الورش الإصلاحي الكبير، مجددا لكم شكري الجزيل على مجهوداتكم هاته وعلى دعوتكم الكريمة.
ومؤكدا لكم أننا في وزارة العدل منفتحون دوما على مقترحاتكم وعلى كل ما من شأنه أن ينهض بهذه المهنة وبكل المهن القضائية لما فيه خير منظومة عدالتنا.
وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.