مقدمــــــة :
الوثيقة في اللغة مصدر وثق به يثق – بالكسر- فيهما وثاقة و ثقة ائتمنه، و الوثيقة في الأمر احكامه والأخذ بالثقة و جمعها الوثائق، ووثقت فلانا إذا قلت إنه ثقة، وهي في الأصل حبل أو قيد يشد به الأسير و الدابة[1].
وحسب الدكتور العلمي الحراق للوثيقة معنيان عامان: معنى حسي ملموس- و هو الأصل- متمثل في الحبل أو القيد الذي يشد به الأسير أو الدابة، ووسيلة الشد في هذا المعنى شيء محسوس ملموس و هو الحبل أو القيد، ومعنى معنوي غير حسي متمثل في العقد أو الربط الذي يشد المتعاقدين بعضهم ببعض على ما اتفقوا عليه من تصرفات و معاملات جرت بينهم، أي أن وسيلة الربط و العقد في هذا المعنى شيء غير محسوس و لا ملموس وهو الوثيقة المكتوبة و الخط المرسوم بإحكام وتوثيق ووثاق. وعليه صارت الوثيقة تطلق و يراد بها التصرف أو المعاملة التي أبرمت بين متعاقدين، أو تطلق ويراد بها وسيلة هذا التصرف أو المعاملة، فيقال مثلا: ” وثيقة الزواج ” و المقصود عقد الزواج، أو ” شهادة الزواج “، كما يقال ” وثيقة البيع ” أي ” عقد البيع ” أو رسمه و شهادته[2].
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن للوثيقة عدة إطلاقات و هي: الشهادة، الرسم والعقد.. و الرسم فهو عبارة عن رشوم و خطوط و كتابة و آثر و علامات موضوعة في كتاب و هي عين الوثيقة و ذاتها، أما العقد فيقصد به في الاصطلاح الفقهي بأنه ربط أجزاء التصرف بالإيجاب و القبول شرعا[3].
عموما، فالوثيقة سواء كانت عدلية أو عصرية لا تكون صحيحة منتجة لآثارها و يعتد بها شرعا و قانونا، إلا إذا كانت محكمة الأركان و الشروط أي أنها مستجمعة لجميع عناصرها، سواء منها الشكلية أو الجوهرية. فما هي إذن هذه العناصر؟ و هل عناصر الوثيقة في الفقه المالكي هي نفسها في التقنين المغربي؟
للإلمام بهذه المشاكل القانونية وغيرها سوف نتطرق في نقطة أولى إلى عناصر الوثيقة الشكلية، على أساس أن نقف في النقطة الموالية عند العناصر الجوهرية للوثيقة، وذلك و فق التصميم أدناه:
أولا: العناصر الشكلية للوثيقة
ثانيا:العناصر الجوهرية للوثيقة
أولا -عناصر الوثيقة الشكلية
لكي تكون الوثيقة صحيحة يجب أن تستجمع مجموعة من الشروط و العناصرالشكلية التي تعتبر ضرورية و في حالة غيابها قد تصبح باطلة أو مجرد وثيقة عرفية ويعلق الأمر هنا بهوية الأطراف وتاريخ التوقيع ومكانه و تم الخط الذي تحرر به و اللغة المستعلة إضافة إلى المصطلحات القانونية والشرعية المستعملة.
أ- هوية الأطراف
يشكل المتعاقدان أطراف العلاقة التعاقدية، لذلك فمن الضروري التعريف بهويتهما تعريفا دقيقا رفعا لأي التباس أو تشابه في الأسماء، فهوية الأطراف تعتبر إجراء شكلي منوط بالعدل الموثق المسؤول عن كل تقصير في ذلك[4]، سواء تعلق الأمر بالوثيقة العصرية (1)أو الوثيقة العدلية (2).
1- هوية الأطراف في الوثيقة العصرية
تعتبر هوية الاطراف في الوثيقة محل اعتبار، وهذا ما نص عليه المشرع المغربي صراحة في الفصل 37 من قانون 32:09 حيث أكد على أنه: يتحقق الموثق تحت مسؤوليته من هوية الاطراف وصفتهم و أهليتهم للتصرف ومطابقة الوثائق المدلى بها للقانون…”
هذه المادة تعتبر ذات أهمية بالغة لأنها تمثل جوهر رسالة الموثق الذي عليه وتحت مسؤوليته واجب التحقق من هوية الاطراف و الصلاحيات التي يملكونها بهذا التصرف[5]، لهذا نجد المشرع يلزم الموثق بذكر الأسماء الكاملة لأطراف بما فيها اسم الاب و الام، موطنهم وتاريخ ومكان ازديادهم، وجنسيتهم ومهنتهم، ونوع الوثيقة المعتمدة في اتباث هويتهم ومراجعها، و النظام المالي للزواج بالنسبة لأطراف عند الاقتضاء، وفي حالة إذا لم تكن لأحد الأطراف وثيقة تثبت هويته، يسمح له بإثبات هويته بإحضار شاهدين بالغين يملكان البطاقة الوطنية ويعرفان التوقيع و لا تكون لهم أي مصلحة في العقد[6].
2 – هوية الأطراف في الوثيقة العدلية
تعتبر هوية الاطراف في الوثيقة العدلية هي نفسها التي تم ذكرها أعلاه في ما يخص الوثيقة العصرية و قد نص المشرع على هذا في المادة 31 من القانون 16:03 التعلق بخطة العدالة حيت جاء فيها ما يلي:” يتعين أن تشمل الشهادة على الهوية الكاملة للمشهود عليه…”
وقد كان الموثقون يذكرون في محرراتهم أوصافا دقيقة للمشهود له أو عليه تمييزا لهما، وفي الصدد يقول ابن فرحون في تبصرته: ” إذا احتاج الكاتب الى ذكر نعوت المشهود عليه او له فينبغي ان يذكر من صفاته أشهرها كالصم و العمى و الاعرج و البياض و اثار الجدري و النمش فيقول في وجه أثار جدري أو نمش و أن كان فيه خال ذكرته وذكرت موضعه وتذكر قطع الانامل أو عضو مما هو مشهور ظاهر في الوجه أو الجسد وتذكر مع ذلك اسمه أو نسبه ونسبته وصناعته…”[7].
ب – تاريخ ومكان التوقيع
لتاريخ الوثيق أهمية كبيرة في مجال التوثيق، إذ كثيرا ما يحسم التاريخ نزاعات تنشأ عن الوثيقة، ويرفع شبهات واحتمالات تتطرق للوثيقة. سواء تعلق الامر بالنسبة للوثيقة العصرية (1) او العدلية (2).
1 –تاريخ تلقي الوثيقة العصرية ومكانها
خلافا لما كان معمول به في نظام التوثيق السابق[8]،فقد جاء في القانون رقم 32:09 على انه تجب الاشارة الى تاريخ توقيع كل طرف من الاطراف وتاريخ توقيع الموثق، وهذا ما جاء في الفقرةالثالثة من المادة 43 من القانون اعلاه: “…يكتب تاريخ وساعة توقيع الاطراف والموثق بالأرقام و الحروف…”
و في ما يتعلق بالجزاء المترتب على عدم ذكر هذا البيان، نجد المشرع في ظهير 4 مايو 1925 الملغى ، قد رتب على تخلف هذا البيان، ما جاء في الفصل 68 من قانون فانتوز الذي ينص على بطلانه كمحرر رسمي، مع احتفاظه بحجية المحرر العرفي اذا تضمن توقيعات جميع الاطراف[9].
ومن بين الحلات التي يلعب فيها التاريخ دورا هاما نذكر ما يلي:
عندما يقوم الموكل بعزل وكيله هما يجب الرجوع الى تاريخ التصرفات التي ابرمها، فان تمت قبل تاريخ العزل أو التوقيف كانت صحيحة، اما اذا تمت بعد هذا القرار وعلم الوكيل و الطراف به، كانت هذه التصرفات باطلة.
كما ان التاريخ يلعب دورا هاما في معرفة المحررات التي تمت من قبل الموثق رغم علمه بقرار العزل او التوقيف، حيت ستكون باطلة كمحررات رسمية لانه في هذه الحالة يكون قد فقد اهلية التوثيق.
لمعرفة متى اصبح العقد رسميا يجب الرجوع الى تاريخ توقيع الموثق لان الفقرة الثانية من المادة 44 من القانون رقم 32:09 تنص على ما يلي “…..يكتسب العقد الصبغة الرسمية ابتداء من تاريخ توقيع الموثق”.
اما في ما يخص مكان توقيع العقد فقد نص المشرع في المادة 12 من القانون 32:09 على أنه: “يمارس الموثق مهامه بجموع التراب الوطني…..” غير انه اذا كان هذا القانون قد سمح للموثق بأن بممارسة مهامه بمجموع التراب الوطني، إلا انه في نفس الوقت جعله كقاعدة عامة ملزما بتلقي عقود وتوقيعات الاطراف داخل مكتبه الموجود بدائرة محكمة الاستئناف المعين بها، وفي حالة مخالفته لهذه القواعد تسري عليه مقتضيات المادة 49 من القانون 32:09[10]
غير أنه يوجد لهذه القاعدة استثناء يجوز للموثق أ، يتلقى عقود و توقيعات الاطراف خارج مكتبه شريطة الحصول على اذن من رئيس لمجلس الجهوي للموثقين ، و اخبار الوكيل العام للملك للمحكمة المعين بدائرتها[11].
2 – البيانات المتعلقة بتاريخ المحرر العدلي
ينبغي ان تؤرخ الوثيقة بالساعة و اليوم و الشهر والسنة
قال ابن فرحون في التبصرة : “تم يؤرخ مكتوبه باليوم و الشهر و السنة”.
و قال الونشريسي في المنهج الفائق: “ويقول الشاهد في شهادته في ساعة كذا من يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا”[12].
وقد نص المشرع المغربي على هذا في المادة 33 من القانون 16:03[13].
وقد ثار نقاش حول التاريخ الذي يعتد به هل هو تاريخ التلقي ان تاريخ تسجيل الشهادة في المحكمة، منا ميز القضاء المغربي بين حاليتين فيما يخص التاريخ الذي يعتد به.
الحالة الاولى،و هي المتعلقة بالتاريخ الذي ينبغي الاحتجاج به فيما بين الاطراف حيث جعله تاريخ تلقي الاشهاد.
الحالة الثانية، الحالة الثانية هي المتعلقة بالتاريخ الذي ينبغي الاحتجاج به على الغير حيث جعله تاريخ تسجيل المحرر العدلي في سجلات المحكمة وهذا ما سار عيه القضاء في العديد من أحكامه[14].
كما ان للتاريخ دورا مهما في الترجيح بين البينات فقد اشار الفقيه الزرقاني في شرحه لمختصر الشيخ خليل إلى انه اذا حصل تعارض بين بينتين وكانت احداهما فقط مؤرخة قدمت على التي لا تاريخ لها، أما إذا كانت معا مؤرختين فتقدم اسبقهما تاريخا.
ويشير اللختمي بدوره الى تقديم البينة الابق تاريخا حتى ولو كانت البينة الاخرى أعدل.
فإذا بيع الملك الواح لشخصين مختلفين وادعى كل منهما ملكيته وب الرجوع الى تاريخ الرسمين حتى يكون صاحب الرسم الاسبق تاريخا هو الأعدل.[15]
وفي هذا الشأن عن سمرة عن الرسول (ص) انه قال: ” ايما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، و أيما رجل باع بيع من رجلين فهو الأول منهما” أخرجه الترمذي في سننه.
ج – توقيع الأطراف
بعد كتابة المحرر وقراءته على المتعاقدين، وشرح موضوعه وبيان النتائج التي ستترتب عليه، يقدم الموثق او العدل المحرر للأطراف قصد التوقيع عليه وهو يعتبر من الشكليات البالغة الاهمية، لأنه بمثابة التعبير المادي للأطراف عن قبولهم بمضمون العقد، وهذا التوقيع يختلف من الوثيقة العصرية (1) الى الوثيقة العدلية التي تتطلب الى جانب توقيع الطراف و العدول مخاطبة قاضي التوثيق(2).
1 – توقيع الاطراف في الوثيقة العصرية
جاء في المادة 43 من القانون 32:09 على انه:” يجب ان تذيل اصول العقود – تحت طائلة البطلان – بأسماء الكاملة وتوقيعات الاطراف و الترجمان و الشهود ان وجدوا ثم الموثق مع خاتمه
يوقع الاطراف على كل صفحة من صفحات العقد ويكتب تاريخ توقيع كل طرف كما يؤشر الموثق على كل صفحة.
يكتب تاريخ وساعة توقيع الاطراف و الموثق بالأرقام و الحروف.
اذ احذ الاطراف لا يحسن التوقيع فإنه يضع بصمته على العقد ويشهد الموثق عليه بذلك، و إذا تعذر عليه التوقيع والإبصام فإن الموثق يشهد عليه بذلك بمحضر شاهدين.
تكون التأشيرات و التوقيعات دائما بخط اليد و بمداد خير قابل للمحو.
في حالة وجود صفحات غير مؤشر عليها من طرق الموثق أو غير موقعة من الاطراف على العقد فإن البطلان لا يلحق إلا هذه الصفحات”.
اذن فمن خلال هذه المادة فالمشرع تطرق لشكلية التوقيع والطريقة التي يتم بها تحث طائلة البطلان، كما اشار الا انه في حالة تعدد الصفحات فان يجب على الطراف المذكورة التوقيع على كل صفحة من صفحات العقد، و أن يكتب تاريخ توقيع كل طرف، كما يؤشر الموثق على كل صفحة و الافضل أن يكتب- ان كان يحسن الكتابة- كل واحد اسمه الكامل بنفسه لا ان يكتب ذلك الموثق، وذلك قطعا لكل انكار او جحود او ادعاء بالتزوير[16].
2 – البيانات المتعلقة بتوقيعات العدول و المخاطبة على الشهادة المؤداة
لصحة الوثيقة لا بد من الختم عليها من طرف العدول، ويطلق الختم على الطي ووضع شيء على الكتاب المختوم يمنع فتحه، ويطلق ايضا على الامضاء وهو عبارة عن كلمات مصطلح عليها يكتبها محرر الوثيقة في آخرها للدلالة على انها نافدة وصحيحة ويطلق على هذه الكلمات مصطلح العلامة ومصطلح الختم.
وقد ورد في البهجة في شرح التحفة للتسولي: ان هذه الكلمات ينبغي ان تكتب بتخليط وتعمية حتى لا تقلد فتصبح الوثيقة عرضة للتزوير.
وذكر الشيخ ميارة انه ينبغي للشاهد ان يثبت على علامة واحدة و لا ينبغي ان ينوعها حتى لا يقع الالتباس في شهادته[17]
وبالرجوع للقانون المتعلق بخطة العدالة تتضمن الوثيقة توقيع عدليها وقد تعرض المشرع إلى هذا الاجراء حيث نص في الفقرة الثانية من المادة 33 من القانون 16:03 على ما يلي.
” تذيل الوثيقة بتوقيع عدليهامقرونا باسميهما مع التنصيص دائما على تاريخ التحرير”.
غير ان هذا لا يكفي في الوثيقة العدلية بل يجب ان يخاطب عليها قاضي التوثيق كما جاء في المادة 35 من القانون 16:03 التي تنص على انه: ” يخاطب القاضي المكلف بالتوثيق على الشهادات بعد اتمام الاجراءات اللازمة، و التأكد من خلوها من النقض، وسلامتها من الخلل وذلك بالإعلام بأدائها ومراقبتها.
كما اشار المشرع في نفس المادة بانه لا تكون الوثيقة تامة إلا أذا كانت مذيلة بالخطاب وتعتبر حينه وثيقة رسمية.
والخطاب حسب الفقرة الاولى من المادة 38 من مرسوم 28 أكتوبر 2008 يجب ان يتم بمداد اسود غير قابل للمحو و أن يضع قاضي التوثيق توقيعه مقرونا باسمه مع وضع الطابع و الاشارة الى تاريخ الخطاب وذلك خلال اجل لا ينبغي ان يتعدى 6 ايام من تاريخ التضمين كما ينبغي ان يكتب الخطاب بخط يد قاضي التوثيق فإذا جاء بخط يد شخص اخر كان القضاء يقضي ببطلانه[18].
د – الخط في الوثيقة
1 – الخط في الوثيقة العدلية
ولما كان تلقي الشهادة يعني سماعها واستقبالها أولا ثم كتابتها ثانيا، فإنهيشترط في العدل أن يكون ذا خط واضح يقرأ بسهولة، حيث تعد الكتابة وسيلة أساسية في تلقي الشهادات وحفظها وأدائها لدى القاضي، لتبيان الحقوق وإبرازها لذويها، والخط الحسن يزيد الحق وضوحا، ولذا نص كثير من الفقهاء على وجوب أن يكون للعدل الموثق خط واضح يقرأ بسهولة وبسرعة، وإلا لم يجز أن يمكن من لانتساب لتلقي الشهادات وكتابة الوثائق بين الناس[19].
ويلاحظ أن القانونالمنظم لخطة العدالة لم ينص على وجوب أن يكون العدل ذا خط واضح يقرأ بسهولة كما يوجب الفقه المالكي، وكان عليه أن يفعل لأهمية حسن الخط وأثره على حقوق المتعاقدين وأموالهم[20].
2 – الخط في الوثيقة العصرية
إن عملية تحرير العقود وصياغتها تستلزم ضبط المصطلحات وتدقيق العبارات، وملاحظة الجوانب اللغوية وتصنيف أحكامها وترتيبها بما يكفل للعقد الدقة وحسن الصياغة وكمال التنسيق[21]، مما يستوجب الأمر تحرير أصول العقود والنسخ بكيفية مقروءة وغير قابلة للمحو على ورق يتميز بخاصية الضمان الكامل للحفظ، استنادا إلى ما نص عليه المشرع في القانون رقم 32.09 المنظم لمهنة التوثيق في المادة 42، كما يجب كتابة المبالغ المالية أرقاما وحروفا حسب ما نصت عليه المادة 36 من القانون رقم 32.09، لكن بعد انتشار أجهزة الحاسوب أصبحت العقود تحرر بواسطته.
مقال قد يهمك : مقالات مهمة حول المنازعات التجارية في العدد 71 من مجلة المحامي
ه – اللغة المستعملة في التحرير
1 – اللغة في الوثيقة العدلية
نظرا للأهمية التي تكتسيها الوثيقة العدلية، فقد أصدرت وزارة العدل عدة مناشر ودوريات، ركزت فيها على احترام الضوابط التوثيقية والقواعد الفقهية للوثائق العدلية، وحثت القضاة والعدول على ضبط الإجراءات التوثيقية وإبلائها المزيد من العناية، وذلك بتحريرها بلغة عربية سليمة وتفادي العبارات المبهمة لأن الوثيقة تنبني على الاحتياط وقطع النزاع وأن ذلك هو المراد منها[22].
حيث نص المشرع في المادة 30 من القانون رقم 16.03 المنظم لخطة العدالة وجوب كتابة الشهادة باللغة العربية، وينص في الوثيقة على اللغة الأجنبية أو اللهجة التي تم بها التلقي إذا تعلق الأمر بغير لغة الكتابة، بعد استعانة العدل بترجمان مقبول لدى المحاكم أو أي شخص يرى العدل أنه أهل بعد موافقة المشهود عليه له وأن لا تكون له مصلحة في الشهادة.
وإذا كانت أصول المستندات التي أسست عليها الوثيقة محررة بلغة أجنبية ضم إلى الشهادة نص تعريبها منجزا من لدن ترجمان مقبول لدى المحاكم و هو ما نص عليه المشرع في خطة العدالة.
2 – اللغة في الوثيقة العصرية
إن أول ما يمكن ملاحظته بالنسبة لتحرير العقد التوثيقي العصري هو كونه كان يحرر باللغة الفرنسية، ولا يحرر باللغة العربية إلا استثناء، إلا أنه بعد صدور من القانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق أصبحت العقود المراد توثيقهاتحرر باللغة العربية وجوبا.
إلا أنه يمكن أن يتفق الطرفان المتعاقدين على تحريرها بلغة أخرى، فإذا كان أحد المتعاقدين يجهل اللغة التي كتب بها العقد فعلى الموثق أن يستعين بترجمان محلف[23] عند وجود صعوبة في التلقي، وإذا تعذر وجوده فعلى الموثق أن يستعين بكل شخص يراه أهلا للترجمة، شريطة أن ينال قبول الطرف المعني بالترجمة، وألا يكون الترجمان شاهدا وله مصلحة في العقد[24].
و –المصطلحات الشرعية والقانونية الواجب استعمالها
1– العبارات الواجب استخدامها في الوثيقة العدلية
من أهم الضوابط التوثيقية والبيانات الأساسية التي تحدث عنها فقهائنا وأولوها عناية خاصة، الكيفية التي ينبغي أن تكتب بها الشهادات وتحرر، وذلك من حيث وضوح خطها واختيار ألفاضها وعباراتها، وضبط الأعداد التي ترد فيها ثم التحرز مما قد يسهل العمل على التدليس فيها وتزويرها[25].
حيث جرى عمل العدول مند عهد الرسول صلى الله عليه وسلم باستفتاحهم الوثائق بعبارة “بسم الله الرحمان الرحيم” و ” الحمد لله” والأصل فيهما كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتكتب البسملة في سطر منفرد خارج إطار الوثيقة أما الحمد لله فهي التي تبدأ بها الوثيقة العدلية بصفة فعلية[26].
وتصدير الشهادة بمذكرة الحفظ أو الوثيقة المحررة بالبسملة والحمد لله فيه من الإجلال والإكبار الشيء الكثير، كما أنه يعطيها بركة ويمنا ويسرا، ويضفي عليها مسحة دينية ربانية، ويبقيها على أصلها الشرعي ووصفها الإسلامي والحضاري[27].
ويجب أن يكتب العدل الشهادة التي يتلقها ويحررها بألفاظ وعباراتواضحة لا تحتمل أكثر من معنى، حتى ينتفي معها كل غموض أو إبهام أو إجمال أو اشتراك، وحتى ينقطع معها كل نزاع وخصام، ويرفع بها كل خلاف واحتمال، وإذا كان لابد من استعمال لفظ مشترك أو عبارة مطلقة، فعليه أن يلحقها بما يزيل اشتراكها أو يخصص عمومها أو يقيد إطلاقها[28].
ومن تم يتضح مدى عناية الفقه بكيفية كتابة الشهادات وتلقيها وتحريرها وتضمينها، واهتمامهم البالغ بمسألة انتفاء الألفاظ المناسبة لبناء الوثيقة العدلية، تحصينا لها وحفظا للحقوق والأغراض والأموال التي توثيقها[29].
2– العبارات الواجب استخدامها في الوثيقة العصرية
إن الوثيقة الحسنة هي التي يتسم أسلوبها بالبساطة والوضوح ويتجنب فيها الغموض وركاكة الأسلوب، وهي أيضا التي يعتمد فيها الإيجاز وتفادي الحشو والإطناب والتكرار، وهي فضلا عن ذلك التي تتصف بسلاسة الأسلوب مع السلامة من العيب.
ومما لا شك فيه أن الاهتمام بكتابة الوثيقة و تحرير العقود، يتطلب الاهتمام بأصغر خلية فيها ويتعلق الأمر بالحروف التي تتألف منها الكلمات والعبارات، حيث أن مدار صحة العقد ككل تبدأ من صحة العبارات الواردة فيه.
حيث يجب تجنب العبارات الفضفاضة التي تحمل أكثر من معنى، وتحديد الفاعل القانوني بوضوح مثل ” يدفع المشتري، يلتزم المشتري ” والتقليل من استخدام الضمائر وصيغ المبني للمجهول واستخدام صيغة الإيجاب بدلا من صيغ النفي واجتناب التطويل قدر الإمكان، وذلك لتجنب أية مشكلة في التنفيذ ناجمة عن عيوب الصياغة أو عدم دقتها أو غموضها، وإلا كان للقضاء مهمة التدخل في تفسير بنود العقد، بما للقضاء من سلطة واسعة في تفسير المحررات الغامضة والمبهمة، وقد يؤدي هذا التدخل من القضاء في التفسير والتوضيح إلى نتائج غير مرضية لأحد المتعاقدين و غير معبرة عن إرادته[30].
ثانيا: جوهر الوثيقة
أ. أهلية الأطراف
تقتضي الضرورة المنهجية الوقوف عند مفهوم الأهلية في معناها اللغوي أولا ثم الإصطلاحي ثانيا؛ فالأهلية في اللغة هي الصلاحية و الجدارة و الكفاية لأمر من الأمور[31]، فالأهلية لأمر هي الصلاحية له، وفي ذلك يقول الحق سبحانه ” هو أهل التقوى و أهل المغفرة “[32].
أما في الاصطلاح، فيقصد بالأهلية صلاحية الشخص لاكتساب حقوق و تحمل الالتزامات و مباشرة التصرفات القانونية التي يكون من شأنها أن تكسب حقا أو تحمله التزاما على وجه يعتد به قانونا[33].
بالرجوع إلى مقتضيات المادة 206 من مدونة الأسرة سوف نجد أن الأهلية نوعان: أهلية الوجوب، حيث عرفتها المادة 207 من مدونة الأسرة بأنها صلاحية الشخص لاكتساب حقوق و تحمل الواجبات التي يحددها القانون، فهي تثبت للشخص لمجرد كونه إنسان، معنى هذا القول أنها ملازمة للإنسان من وقت ولادته حيا إلى حين و فاته، بل تبدأ قبل دلك للجنين في حدود معينة.
و إلى جانب هذا النوع، هناك أهلية الأداء حيث عرفتها المادة 208 من مدونة الأسرة بأنها صلاحية الشخص لممارسة حقوقه الشخصية و المالية و نفاذ تصرفاته، و يحدد القانون شروط اكتسابها و أسباب نقصانها أو انعدامها. فهي إذن قدرة الشخص على إبرام التصرفات القانونية لحسابه. و جذير بالذكر إلى أن مناط أهلية الأداء هو التمييز و الإدراك بخلاف أهلية التي مناطها الحياة.
تأسيسا على ما سبق، فإن الموثق قبل أن يتلقى أي عقد أو تصرف من أطراف المعاملة، فإنه يكون ملزما بالتحقق من أهلية المتعاقدين و الشهود إن و جدوا، و ذلك تحت طائلة إثارة مسؤولية في هذا الصدد[34]، و المقصود بالأهلية هنا أهلية الأداء بطبيعة الحال. و فيما يخص التحقق من أهلية المتعاقدين للتصرف و المقصود بها أهلية الأداء الكاملة، فيتم بواسطة إمعان النظر في سنهم، الذي يتعين أن يكون 18 سنة شمسية كاملة فأكثر و مدى مطابقته لبطاقة الهوية المدلى بها للموثق من خلال التخاطب و تبادل الكلام معهم في مجلس العقد مع تدقيق النظر في ظاهر حالهم و حركاتهم و سكناتهم، خوفا من أن يكون أحدهم من ناقصي الأهلية كأن يكون سفيها أو معتوها، و إذا لاحظ عليه الدخول و الخروج في الكلام، أو التناقض و التخليط في التخاطب أو أحس بريبة في حالته و تعاطيه و تعذر عليه الوصول إلى اليقين من خلال الإدلاء له بنسخة من حكم المحكمة القاضي بالتحجير على المعني بالأمر فإنه يتعين على الموثق أن يمتنع من الإشهاد عليه.
و تجدر الإشارة في إطار التوثيق العدلي إلى كون الشهود اعتادوا أن يكتبوا في آخر الوثيقة ما يفيد توفر المتعاقدين على الأهلية الكاملة أو الناقصة، فيذكرون التعبير التالي في حالة الأهلية الكاملة:” شهد به عليهم من أشهدوه و هم بأثمه “[35].
و إذا كان بعض أطراف العقد أو الملتزم في الإرادة المنفردة لا يتوفر على الأهلية الكاملة كما في تزويج بنت لم تبلغ سن الرشد فيكتب العدلان، شهد به عليهم من أشهدوه به وهم بأتمه ممن عدا الزوجة مطلقا و منها بحال هذا و شبهه، و هذه العبارة تفيد أن الزوج و الوالي تمام الأهلية، أما الزوجة فأهليتها غير كاملة، و ليس لها أهلية التصرف في المال، و إنما لها أهلية القبول والرفض في أمور الزواج فقط لأن أمور الزواج متعلقة بالبدن و لا حجر فيه، فقال أبو الشتاء الغازي الصنهاجي؛ كل ما يرجع للأبدان لا حجر فيه واضح البرهان.
أما إذا كان أحد المتعاقدين مريضا جسميا أو مرضا مخوفا أو مرض الموت و يجيز له القانون أن يجري بعض التصرفات في حالة لمرض الجسمي كما في الوصية في حالة المرض و يقول الشاهد الموثق:” شهد به عليه بحال مرض ألزمه الفراش و فيه و معه صحيح القول تابت الذهن تام التمييز و الإدراك”.
و السؤال الذي يجب بسطه في هذا السياق، هل كتابة الشهود العدول لعبارة الأثمية دليل قاطع على أهلية المتعاقدين لا تقبل إثبات العكس؟
لقد ذهب المجلس الأعلى في عدة اجتهادات إلى اعتبار ذكر الأثمية في الوثيقة دليل قاطع على ثبوت الأهلية و لا يقبل إثبات العكس. نشير في هذا السياق إلى القرار عدد 809 المؤرخ في 25/12/1982 جاء فيه:” يعتبر الرسم العدلي الذي يشهد فيه العدلان بأثميته المشهود عليه بحجة رسمية على أنه لم يكن و قت الإشهاد مريضا مرض الموت[36].
وقد انتقد الأستاذ عبد القادر العرعاري هذا الإجتهاد و غيره بالقول “إن الإشهاد العدلي بالأثمية ما هو إلا رصد ظاهري للحالة الصحية للمريض المتعاقد وقد يكون الواقع مخالفا لهذا الوضع الظاهري خصوصا و أن مهمة القطع و الحسم فيما إذا كان الشخص المتعاقد مريضا مرض الموت، ليست مهمة توثيقية، و إنما هي مهمة طبية.
علاوة على ما سبق، فإن الموثق ملزم بالتحقق من أهلية الشاهد، الذي يجب أن يكون راشدا[37]؛ بمعنى أن يكون بالغا من العمر 18 سنة شمسية كاملة طبقا لما هو منصوص عيه في المادتين 209 و 210 من مدونة الأسرة، أو أن يكون قاصرا بالغا 16 سنة من عمره و تم ترشيده طبقا لمقتضيات المادة 218 من مدونة الأسرة، و أن يكون متمتعا بحقوقه المدنية؛ كحق التجول و حق التعبير وغيرها.
و نشير إلى كون الموثق يتحقق من رشد الشاهد انطلاقا من بطاقة الهوية التي يتعين عليه مطالبة الإدلاء بها؛ كالبطاقة الوطنية للتعريف في مدة صلاحيتها أو جواز السفر أو رخصة السياقة أو غيرها من الوثائق الرسمية المفيدة في التعريف. أما تحقق الموثق منن ترشيد الشاهد فيكون بواسطة الإدلاء بنسخة من حكم المحكمة القاضي بترشيده.
ب: رضا المتعاقدين
من بين الالتزامات الملقاة على عاتق الموثق التحقق من سلامة رضا المتعاقدين، ذلك أنه كلما تبين للموثق عدم توفر ركن الرضا لدى أحد المتعاقدين أو أحس بتعرضه للإكراه كيفما كان نوعه، أو تدليس أو غش أو غلط أو عيب آخر من عيوب الرضا من شأنه التأثير في صحة العقد في كل هذه الأحوال يتعين على الموثق ألا يوثق العقد المطلوب توثيقه.
و من أجل توضيح رضا المتعاقدين فإن المشرع ألقى على عاتق الموثق مسؤولية إسداد النصح للأطراف و إرشادهم إذ جعل منه المشرع بصرح الفصل 37 من القانون رقم 32.09 المتعلق بالتوثيق العصري و اجبا قانونيا لا واجبا أدبيا، بحيث لا يسوغ للموثق التملص منه بأي وجه من الوجوه.
ج- المحل
1- المحل في الوثيقة العدلية
إن الحديث عن موضوع الوثيقة العدلية يقتضي أن يتم التطرق إلى مفهومه في هذه الأخيرة (1) ثم بعد ذلك ذكر الشروط المتطلبة شرعا وقانونا لقيامه صحيحا فيها (2).
1-1 مفهوم المحل في الوثيقة العدلية
يقول صاحب نظم العمل الفاسي:
وشاع في ذكر الجيلالي *** تخصيص ذا اللفيف بالأموال ([38]).
وتأسيسا على هذه القاعدة الفقهية، كان من شرط العمل بشهادة اللفيف أن يكون موضوعها مالا
أو ما يؤول إلى المال، غير أن عامل الزمن جعل كل من الأموال، ما يؤول إلى الأموال وحتى
غير الأموال محلا للوثيقة العدلية ([39]).
فالمال في اللغة كما قال ابن منظور: “ما ملكته من جميع الأشياء” ([40])، أي ما يملكه الإنسان من كل شيء ([41]).
ومما يستوجب الإشارة إليه في هذا المقام، هو أن المال لغة يكون مخصصا حينا، كما في الذهب والفضة…، ومعمما حينا آخر حينما يعنى به كل ما يقتنى ويملك من الأعيان ([42]).
وإذا ما عرجنا على الاصطلاح الفقهي للمال، فتعريف هذا الأخير يختلف من مذهب لآخر، فقد عرفه الحنفية بأنه “ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة”، في حين ذهب الشافعية إلى تعريفه على أنه “كل ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه”، أما الحنابلة فجعلوا من المال “ما له منفعة مباحة لغير ضرورة، وزاد بعضهم أو حاجة”.
واستنادا إلى مذهب الإمام مالك، فيراد بالمال “ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذ من وجهه” ([43]).
ومما يمكن ملاحظته في هذا الصدد من خلال هذه التعاريف، هو أن المال والشيء سيان.
وتوخيا لنوع من الدقة، يمكن تعريف الشيء على أنه كل ما لا يعد شخصا مما يكون له كيان ذاتي منفصل على الإنسان ([44]).
فقد تكون مثلية وهي تلك التي يقوم بعضها مقام الآخر في الوفاء نظرا لانعدام الاختلاف بينها، كما هو الشأن بالنسبة للقمح، الكتب ذات الطبعة الواحدة …، أو قيمية وهي تلك التي لا يقوم بعضها مقام الآخر في الأداء لانعدام التشابه بينها من حيث قيمة كل واحدة منها كما هو الشأن بالنسبة للحيوان، السيارات مختلفة النوع … ([45]).
وقد تكون أشياء عامة مملوكة لأشخاص معنوية عامة تخصص لخدمة الصالح العام (طرق سيارة، جسور، أنهار، شواطئ …) أو أشياء خاصة في ملكية أشخاص ذاتيين أو أشخاص معنوية خاصة والمخصصة للانتفاع الشخصي.
مقال قد يهمك : مداخلة الدكتور عمر أزوكار في ندوة بعنوان “ضمانات القضاة و الأمن القضائي”.
كما أنه من الأشياء ما يكون قابلا للاستهلاك فيؤدي ذلك إلى فنائها (الخضر، الفواكه، القمح …) أو غير قابلا للاستهلاك بحيث لا تكون نتيجة ذلك زوال الشيء (الكتاب، السيارة، اللباس…).
وعلاوة على هذه التقسيمات، هناك أشياء متقومة تدخل في دائرة التعامل (الكراسي، الطاولات…) أو غير متقومة خارجة على دائرة التعامل وتكون محرمة (الخنزير الميتة الدم…).
وبالرغم من اختلاف وتنوع وتعدد تقسيمات الأشياء، فلا يمكن أن تصنف إلا إلى عقارات أو منقولات.
فالعقار لغة، بفتح العين، هو كل ملك له أصل وقرار، وهو مأخوذ من عقر الدار أي أصله([46]).
أما اصطلاحا ([47])، فإن كل من الحنفية، الشافعية والحنابلة يعتبرون العقار هو “كل ما لا يمكن نقله من مكانه أبدا”، وينطبق هذا التعريف على الأرض فقط دون ما هو مثبت فيها كالبناء والأغراس.
أما المالكية، فالعقار فيضيفون إلى هذا التعريف علاوة على الأرض، البناء والأغراس، وبالتالي فالعقار هو ” كل شيء لا يمكن نقله أبدا أو لا يمكن نقله إلا بتغيير هيأته”.
وينقسم العقار إلى:
عقار بالطبيعة ويقصد به ما يقصد بالعقار عند المالكية (كل شيء لا يمكن نقله أبدا أو لا يمكن نقله إلا بتغيير هيأته كالأرض، البناء والأغراس…) وكذلك كما عرفه المشرع المغربي في المادة 6 من مدونة الحقوق العينية رقم 39.08 ([48])والذي يجري سياقها على ما يلي: “العقار بطبيعته هو كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه لا يمكن نقله من دون تلف أو تغيير بهيئته”.
وعقار بالتخصيص، وهو حسب المادة 7 من مدونة الحقوق العينية المغربية: “المنقول الذي يضعه مالكه في عقار يملكه رصدا لخدمة هذا العقار” ([49])
وتجب الإشارة إلى أن هناك صنف ثالث من العقارات يصطلح عليها بالعقارات بحسب محلها أو موضوعها أو ما تنسحب إليه، وهي الحقوق العينية الواردة على عقار والدعاوى الرامية إلى حماية حق عقاري (كالدعاوى التي تهدف إلى استحقاق عقار أو حيازته أو قسمته…) غير أن هذا الصنف تم نسخه بنسخ ظهير 19 رجب 1333 الموافق ل 2 يونيو 1915 المتضمن للقواعد المطبقة على العقارات المحفظة ([50]).
هذا بالنسبة للعقار، أما فيما يخص المنقول، فهو لغة اسم مفعول مأخوذ من الفعل نُقِلَ، والنقل تحويل الشيء من موضع إلى موضع ([51]).
وفي الاصطلاح عند جمهور الفقهاء (الحنابلة والشافعية والحنفية) هو “ما يمكن نقله وتحويله سواء بقي على حالته أم لا”.
أما المالكية فيعتبرون المنقول هو “ما يمكن نقله وتحويله مع بقاء هيأته وحالته” ([52]).
والمنقول نوعان :
إما منقول بالطبيعة، وهو طبقا للتعريف الفقهي المالكي، أي كل ما ليس بعقار، (السيارة، الباخرة، الطائرات…) أو بحسب المآل، وهو عقار في أصله يتحول إلى منقول استنادا لإرادة الأطراف (كما الشأن بالنسبة لأنقاض البناء وأجزاء الأشجار بعد اجتثاثها وتقطيعها…) ([53]).
وهناك أيضا الحقوق المنقولة وهي إما حقوق عينية مترتبة على منقول، أو دعاوى تروم حماية حق منقول (كدعاوى استحقاق منقول، أو الدعاوى التي يكون محلها حق شخصي على منقول…)([54]).
ومما يتعين إضافته في هذا الشأن، هو أن نظرية حديثة عمدت على إفراز تفرقة بين الشيء والمال، فالمال هو ما له قيمة اقتصادية تقدر بالنقود، كالحقوق العينية، أما الشيء فهو ما تترتب عليه الأموال كالعقارات ([55]).
ففي تاريخ القانون، وخاصة القانون الروماني، لم يكن هذا الأخير يجد تفرقة بين المصطلحين، لكن الفقه الحديث منح للشيء دلالة فيزيولوجية أو مادية، أما المال فأعطاه مدلولا قانونيا يتوافق مع بعض تصنيفات الأشياء ([56]) ذلك أن هذه الأخيرة لا تتحول إلى أموال اللهم إلا إذا كانت مخصصة)مما يسوغ معه القول بأن كل مال هو بمثابة [57](L’AppropriationPrivéللانتفاع الشخصي
شيء وليس كل شيء هو بمثابة مال.
وبالنسبة للمشرع المغربي، فإنه لا يميز بين المال والشيء، وذلك طبقا للفصل 1241 من قانون الالتزامات والعقود المغربي حينما اعتبر بأن أموال المدين ضمان عام للدائنين، لكنه يعود مرة أخرى في الفصل 57 من نفس القانون لينص على أن الأشياء والأفعال والحقوق المعنوية الداخلة في دائرة التعامل تصلح وحدها لأن تكون محلا للالتزام. ويدخل في دائرة التعامل جميع الأشياء التي لا يحرم القانون صراحة التعامل بشأنها.
وموجبات التدخل الصارم للمنهجية يقتضي أن يتم تحديد التوجه الذي انتهجه المشرع المغربي بهذا الخصوص على وجه التدقيق إلى حين الحديث عن الشروط الواجب توافرها في المحل حتى يصح شرعا وقانونا، وذلك بعد الإشارة إلى المقصود بما يؤول إلى المال.
فكل ما يؤول إلى المال هو ما لا يعتبر مالا ولكنه سيصبح مالا ([58])، كما هو الشأن بالنسبة للعقار في طور الإنجاز، فهو ليس بمال لأنه ليس بعقار ولكنه سيصبح كذلك بعد انتهاء الأشغال.
أما بالنسبة لغير الأموال، فيقصد بها الأبدان، أي مجمل العلاقات القانونية التي لا يعتبر فيها المال محلا لها، كما هو الحال بالنسبة للزواج والطلاق.
1-2 :شروط صحة محل الوثيقة العدلية
بالرجوع إلى الفقرة الثانية من الفصل 31 من القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة([59])
نجد بأن المشرع المغربي نص فيه على أنه يتعين أن تشتمل الشهادة أيضا على تعيين المشهود فيه تعيينا كافيا.
كما يمنع الفصل 32 من نفس القانون أن يتم تلقي الشهادة التي يكون محلها خارجا عن دائرة التعامل.
ومما يمكن ملاحظته بعد القراءة المتأنية لهذين المقتضيين القانونيين هو ضرورة تثبت العدول من توافر جميع الشروط المتطلبة لصحة المحل قبل توثيقه.
وفي هذا الإطار يدق التمييز بين نوعين من المحل، محل الالتزام ومحل العقد.
فبالنسبة لمحل الالتزام، هو ذلك الأداء الذي يلتزم به كل طرف في الرابطة القانونية تجاه الآخر، والذي قد يكون إما إعطاء شيء، القيام بعمل أو الامتناع عن عمل ([60]).
أما بالنسبة لمحل العقد فيراد به تلك العملية القانونية التي تحتوي محل الالتزام وتختلف باختلاف الفرضيات، فقد تكون بيع، كراء، مقاولة، زواج … ([61]).
وسواء تعلق الأمر بمحل الالتزام أو محل العقد، فالعدول ملزم بالتأكد من صحتهما قبل تضمينهما في الوثيقة العدلية عملا بمقتضيات المادتين 31 و32 من القانون رقم 16.03. فما هي الشروط المتطلبة فقها وقانونا لصحة المحل؟
2-1- محل الالتزام
تجب الإشارة إلى أنه سيتم الاقتصار فقط على الأداء الوارد على الشيء، حتى لا نخرج عن السياق العام للعروض المخصصة لدراسة هذه المادة.
وعليه، فعلى الشيء أن يكون مستكملا للشروط الآتية:
2-1-1- أن يكون موجودا أو ممكن الوجود مستقبلا
فالشيء محل الالتزام يتعين أن يكون موجودا لحظة التعاقد استنادا إلى الفقرة الثالثة من المادة الثانية من قانون الالتزامات والعقود المغربي التي تجعل من الشيء المحقق الذي يصلح لأن يكون محلا للالتزام من بين الأركان اللازمة لصحة الالتزامات الناشئة عن التعبير عن الإرادة.
أما إذا الشيء موجودا وقياسا بمفهوم المخالفة، إذا كان الشيء موجودا لكنه هلك قبل التعاقد، فلا يصح كمحل، ومن ثم لا مناص من عدم توثيق العدول للعقد.
وهذا ما أكدته المذاهب الفقهية الأربعة حينما اشترطت وجود المعقود عليه وليس فقط كونه محتمل أو محقق الوجود في المستقبل تحت طائلة البطلان ([62]).
وفي سياق ذي صلة، حرم قانون الالتزامات والعقود التنازل عن تركة إنسان لا زال على قيد الحياة أو إجراء أي تعامل فيها، أو في شيء مما تشتمل عليه ولو حصل برضا هذا الإنسان ([63])، وكذلك ومدونة الحقوق العينية بعدم رهن أموال يحصل عليها مستقبلا ([64]).
وإذا كان الأصل كذلك، فإنه استثناء، يمكن توثيق عقد يكون فيه المعقود عليه مستقبلا لضرورات اقتصادية واجتماعية كما هو الحال بالنسبة للبيوع الواردة على عقار لا زال في طور الإنجاز ([65]).
ويجيز الفقه الإسلامي، وخاصة الفقه المالكي التعامل بأشياء مستقبلية بعلة انتفاء الغرر من ذلك بيع الثمر والزرع بعد الطلوع وقبل بدو الصلاح إن كانت مما ينتفع بها شريطة القطع، وكذلك بيع ما يوجد من الزرع بعضه بعد بعض وهي الحالة التي يكون فيها المعقود عليه موجودا ويكتمل بعد ذلك، علاوة على بيع السلم ولكن بشروط تأثر بمقتضاها المشرع المغربي لينظم هذا النوع من البيوع في الفرع الثالث من الباب الأول من القسم الأول من الكتاب الثاني من قانون الالتزامات والعقود المغربي حيث من بين شروط صحة هذا البيع الكتابة للإثبات ([66]).
وعليه، فإن العدول ملزم بمراعاة هذه المقتضيات عند تعيينه للمشهود فيه.
2-1-2- أن يكون معينا
من القواعد المجمع عليها فقها ([67]) وقانونا، أن يتم تعيين الشيء محل الالتزام تعيينا مانعا من الجهالة الفاحشة تحت طائلة فساد العقد، يستوي أن يكون الشيء موجودا في مجلس العقد أو لاحقا عليه، قيميا أو مثليا ([68]).
وتجب الإشارة إلى أن التعيين يختلف في الفقه الإسلامي عن الغربي، حيث يتشدد الأول في تعيين المعقود عليه تعيينا أكبر توقيا للغرر على قدر المستطاع ([69]).
وعليه، إذا كان العقار غير محفظ، يتعين على العدول أن يصف شكله وأن يذكر نوعه هل هو أرض زراعية أم بناء، فإذا كانت زراعية، توجب عليه التنصيص على أنها بورية أو سقوية أو مغروسة، وإذا كان بناء لزم عليه أن يحدد علوه، مساحته، عدد طوابقه، وإذا كان مملوكا ملكية مشتركة، توجب تضمين الوثيقة الأجزاء المفرزة والأجزاء المشتركة، هذا دون إغفال الإشارة إلى قيمة العقار ([70]).
وإذا كان العقار في طور التحفيظ، تعين على العدول أن يشير إلى رقم مطلب التحفيظ علاوة على مساحة وموقع وحدود العقار.
أما إذا كان محفظا، فما هو مضمن بالرسم العقاري من بيانات، وجب تنزيله في الوثيقة استنادا إلى القوة الثبوتية للتقييد الناجم عن التحفيظ، فكل ما هو مضمن بالرسم العقاري هو الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان، من مساحة وحدود وموقع العقار وشكله ونوعه وعدد طبقاته إذا كان بناء، دون إغفال العدول تضمين ما إذا كان العقار مثقلا برهون أو تكاليف ([71]).
والقول بضرورة تعيين المحل وقت التعاقد لا يعني بأنه لا يمكن أن يكون قابلا للتعيين بعد ذلك، غير أن النقطة التي يستوجب ذكرها في هذا المقام، هو أن الأشياء القابلة للتعيين يتوجب أن تكون قيمية لا مثلية لصعوبة قابلية هذه الأخير للتعيين نظرا لتشابهها، أما الأولى فيجوز الاتفاق فقط على تعيين مجموعة من الضوابط الموضوعية الخاصة بالشيء التي تيسر القابلية لأن يعين بعد تكوين العقد ([72]).
لكن بالرغم من تخويل قانون الالتزامات والعقود قابلية تعيين المحل، غير أن المشرع المغربي في المادة 31 من القانون رقم 16.03 كان صريحا عندما أوجب تعيين المشهود فيه تعيينا كافيا، الأمر الذي لا يسوغ معه القول بقابلية الشيء محل الالتزام أن يكون معينا.
2- 1- 3-أن يكون داخلا في دائرة التعامل
بناء على مقتضيات الفصل 57 من قانون الالتزامات والعقود المغربي، جميع الأشياء التي يحرم القانون التعامل بشأنها لا تصح أن تكون محلا للالتزام وبالتالي موضوعا للشهادة.
وقد يكون هذا التحريم راجع إلا اعتبارات تتعلق بطبيعة الشيء، كأن يكون من النجاسات،
أو بالغرض الذي من أجله خصص ذلك الشيء، كأن يكون العقار محلا للممارسة البغاء،
أو أن يكون ملكا عاما للدولة أو حبسيا ([73]).
وبخصوص هذا المقتضى الأخير، تنص المادة 18 من المرسوم رقم 2.08.378 الصادر في 28 من شوال 1429 الموافق ل 28 أكتوبر 2008 بتطبيق أحكام القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة على أنه إذا كان العقار غير محفظ، وجب على العدول أن يتأكد من كونه ليس ملكا جماعيا أو حبسيا أو من أملاك الدولة وغيرها بواسطة شهادة صادرة عن السلطة المحلية.
2 -2- محل العقد
إن العملية القانونية التي يشهد فيها العدول لا يمكن أن يعتد بها لا فقها ولا قانونا اللهم إلا إذا كانت مشروعة. وهذه المشروعية ترتبط بفكرة النظام العام.
ويمكن تعريف النظام العام على أنه مجموع القواعد، القيم والمثل العليا ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي يميز كل مجتمع عن غيره، تحقيقا للمصلحة العامة لأفراده ([74]).
ويعتبر النظام العام في المغرب ما نصت عليه الشريعة الإسلامية في شتى المجالات والأنظمة بتعدد أنواعها، المدنية والتجارية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية ([75]).
وتأسيسا على ذلك، فإن فكرة النظام العام في الفقه الإسلامي تستند إلى فكرة “حق الله”، وهو ما يتسم بالنفع العام وينسب إلى الله جل وعلا لعظم خطورته وشمول نفعه، فلا يجوز العفو فيه أو الإبراء أو الصلح ([76]).
وعليه، لا يجب أن يتم الاتفاق على تعديل أحكام الزواج أو الإرث.
وقد وسع الفقه الإسلامي من دائرة النظام العام بمنع التعامل في المحل الذي يكتنفه الغرر الشديد
وتحريم التعامل في الربا ([77]).
أما بالنسبة للنظام العام في القانون الوضعي، فإنه لا يمكن القول بأن النظام العام في الفقه الإسلامي يشكل مكونا من مكونات الأول، وإنما يوازيه إلى حد قريب، إن لم نقل بأنه لا فرق بينهما، فهو يشمل ما هو مرتبط بالنظام السياسي للدولة، وفيه ما يتعلق بالأسرة، ضمان احترام شخصية الإنسان، الأخلاق، الاقتصاد ([78]).
2- المحل في الوثيقة العصرية
إن ما ينطبق على الوثيقة العدلية طبق على الوثيقة العصرية فيما يهم المحل، حيث أنه طبقا للمادة 36 من القانون رقم 32.09 المنظم لمهنة التوثيق ([79]) فإن من بين ما يتعين تضمينه في العقد الذي يتلقاه الموثق، أركان وشروط العقد مع تعيين محله تعيينا كاملا.
وعليه، يتوجب على الموثق أن يقوم بالتأكد من وجود الشيء محل الالتزام وقت التعاقد أو من قابلية وجوده مستقبلا وبتعيينه تعيينا مانعا من الجهالة الفاحشة والتثبت من كونه داخلا في دائرة التعامل فضلا عن كون العملية القانونية برمتها مشروعة.
Leave A Comment