أولت الشريعة الغرّاء الزواج عناية بالغة باعتباره السبيل الشرعي الأوحد لاستمرار الجنس البشري المحمل بأمانة الاستخلاف في الأرض، وكونه النظام الكوني المتفرد الذي يلائم الطبيعة الانسانية ويحقق السكن والتوازن النفسي ويضمن الأمن الاجتماعي، والاستقرار الروحي الذي عبر عنه الحق سبحانه بقوله: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”([1]). وكونيته تظهر من تبني سائر الملل والأمم والشرائع السماوية والوضعية له. كيف لا وهو السبيل الفريد لإِنشاء الصحبة المشروعة بين الرجل والمرأة ولقضاء الوطر والإحصان والعفاف ومنع فشو الأمراض؟ وهو النظام الوحيد المقبول شرعا والمستساغ وضعا لبناء الأسرة التي هي أصغر وأصلب وحدة في المجتمع وركنه الركين، إذ هي أساس لرقيه ومناعته، يقوى بقوتها ويضعف بضعفها، إذ الأسرة ولا خلاف أمة صغيرة تظهر مدى تقدم الأمة الكبيرة، وهي آية من آيات الله ونعمة من نعمه. فقدّر للناس أن يعيشوا في أكنافها ويستظلوا بظلها، فغدت الأسرة والحالة ما ذكر ثابتا من ثوابت الأمة وخصيصة من خصائص أمنها، فاختص الحق سبحانه بنفسه في آي تنزيله وحديث نبيّه بتنظيم أحكامها، زواجا وطلاقا ونسبا وإرثا.
وتأكيدا على خصوصية عقد الزواج([2]) وعناية الشريعة به ظاهرا وباطنا باعتباره من مهمات الدين، نعت في الاستعمال القرآني بأنه ميثاق غليظ([3])، وهذا الوسم لم يستعمله الحق إلا فيما كان بينه وبين عباده المخلصين، فسما وارتقى به باعتباره أجل ما يمكن أن يتعاقد عليه الناس في الحياة كلها وأكثره حرمة، لأن ثمرته الإنسان خليفة الله وأغلى ما يوجد فيها، فتترتَّب عليه آثار وحقوق قاصرة ومتعدية، خاصة وعامة. وتتعلق به أحكام شرعية يبقى أثرها ساريا إلى الأبد، فلا غرو أن يضبط عقد الزواج شرعا ويحصن بأركان وشروط محددة باعتباره المقوم التأسيسي للأسرة التي تعد النواة الأولى في الخلية الإنسانية، وأحد مقومات الأسرة الثلاثة([4])، مع ترك هامش للمتعاقدين اختيارا واشتراطا فيقع الجمع بين الثبات والمرونة في الآن عينه.
فالشريعة أولت عناية بالغة لمقدمات العقد بما يمهد لبناء صرح الأسرة بناء رصينا ولأجله أحيط الزواج بعناية تشريعية بالغة من خلال فرض التعاقد بين الزوجين وفق أركان وشروط وضوابط تكفل مصلحة الزوجين والأسرة والمجتمع، وأي إخلال بها ينتج عنه بالتبع الإخلال بحقوق هؤلاء جمعا وإفرادا.
فكان لعقد الزواج في الأبواب الفقهية معالم يستدل عليه بها، منها إحكام العقد، ومقصد عاقديه([5])، وتميز العقد، وسموه ورفعته. لذلك ولغيره فَصّل مشرع مدونة الأسرة في أحكامه من خلال إفراد تسع وستين مادة، نظمت سائر متعلقاته عموما وخصوصا تلافيا للاختصار المخل الذي كان يعتري أحكام مدونة الأحوال الشخصية الملغاة، والتي لم تنظمه سوى بثلاثة وأربعين مقتضى، لم تكن تُلم بسائر مقتضياته الموضوعية والإجرائية، مما حمل القضاء على الاجتهاد والاستمداد من الفقه الإسلامي، شرحا لإغلاق أو تجلية لغموض أو تكملة لنقص، فتضاربت الأحكام للاختلاف في مصادر الاستمداد ومناهج الاجتهاد.
ولتوثيق الزواج سبيلان، أصلي عادي يقع بالإشهاد لدى عدلين منتصبين لتلقي الشهادات بصفة نظامية، وآخر استثنائي يكون بحكم قضائي في كل حالة يتعذر فيها التوثيق لدى عدلين لسبب واقعي لا يد للزوجين فيه. فَحِرْصُ المشرع على جعل عقد الزواج الحجة الفريدة المقبولة للإثبات يجابه بإكراه واقعي متمثل في فشو ظاهرة الزواج بالفاتحة، التي يرجع استشراؤها لعوامل مختلفة متظافرة، اقتصادية حيث يضطر بعض الآباء المعدمون لتزويج بناتهن القاصرات لعدم قدرتهن على الانفاق عليهن، ولا يملكون توثيق الزواج لدى العدول لعدم بلوغهن السن المقبول أو لعدم القدرة المالية على إنشاء الوثائق الإدارية المستلزمة المعضدة لطلب الزواج أو أداء أجرة العدول، أو عوامل اجتماعية متعلقة بعدم ترسخ ثقافة توثيق العقود وتراخي الناس في ذلك والتوجس من كل أمر ينجز في المحاكم، أو عوامل أنتربولوجية مردّها إلى استحكام عادة في نفوس المغاربة متوارثة كابرا عن كابر، خاصة عند سكان البوادي في المغرب العميق والأماكن القصية وبعض سكان الحواضر، الذين يستغنون عن حضور العدول ويكتفون بقراءة الفاتحة بحضور الجماعة وإشهار الزواج وإشاعة خبره بينهم([6])، باعتبار بعده الديني الحاكم. ولأجله اعتبر بعض الفقه القانوني أن الزواج عقد مدني ذو طبيعة شرعية([7]). وقد يستعاض عن تحرير رسم الزواج العدلي تهربا من الإجراءات الإدارية المعقدة المنصوص عليها بمقتضى المادة 65 من المدونة.
وقد كانت الغاية السامية من إقرار هذه السبيل البديلة تصحيح وضع مختل وإضفاء الصبغة الشرعية والقانونية عليه والمحافظة على حقوق كافة أطراف الأسرة وحماية النسب من الاختلاط والضياع، وهذه السبيل رغم نبل غايتها متمثلة في الحفاظ على الأسر من التصدع ومنع اختلاط الأنساب، فإنها تطرح إشكالات عملية حقيقية باعتبار طبيعتها الاستثنائية، وباعتبار الأجل المحدد المضروب من لدن المشرع لتصفية جميع الحالات المتعلقة بها، وباعتبار التحايل الذي يعمد إليه البعض استغلالا لهذه المكنة البديلة والاستثنائية التي غدت بفعل سوء الصياغة وسوء الفهم وسوء التطبيق أصلا مُحكّمَا وبديلا دائما.
ولا خلاف في أن الكتابة عند السادة المالكية ليست بركن أو بشرط صحة في عقد الزواج لكونه عقداً رضائياً ينعقد بالرضا والقبول، قال الشيخ خليل: “ركنه ولي وصداق ومحل وصيغة”([8])، لكنه غدا عقدا شكليا في ظل القوانين السارية، سواء في ظل مدونة الأحوال الشخصية أو مدونة الأسرة([9])، فأضحت الكتابة متمثلة في عقد الزواج أو الحكم بثبوت الزوجية شرط صحة فيه([10])، وغني عن البيان أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فالكتابة تحمي الحق الشخصي أو العيني من الجحود والنكران، خاصة مع فساد بعض الذمم في هذا الزمان، خلافا لما كان عليه الأمر زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن صحابته وتابعيهم. فعقد الزواج لا يعد ركنا في الزواج لكنه وسيلة لإثباته حال نشوء نزاع بين رجل وامرأة تدعي زواجها منه. وهناك حالات أخرى لا تكون فيها العلاقة الزوجية محل منازعة لكن لا مناص من إثباتها، كالأرملة التي تطلب نصيبها في معاش زوجها أو التعويض عن وفاته جرّاء حادثة سير ويطلب منها الاستظهار بعقد الزواج، أو الزوج الذي لم يوثق زواجه ويرغب في تسجيل أبنائه في سجلات الحالة المدنية، أو استفادة زوجته من الضمان الاجتماعي فلا يجد لذلك سبيلا.
وتحقيقا لغاية التوثيق سمح بثبوت الزوجية الخالية من الإشهاد، المستعاض عنه بالاستفاضة والشهرة في معاشرة الطرفين، الثابتة من خلال شهادة الشهود، ويقوم ذلك مقام الإشهاد ركونا إلى مقتضيات الفقه المالكي المعتبر عندنا والذي لا يعتبر الإشهاد ركنا في الزواج، فيصح بدونه، وتأسيسا على ذلك جاء في قرار للمجلس الأعلى: “يترتب عن تحقق الشهرة في النكاح قيام علاقة زوجية صحيحة مرتبة لكافة آثارها. ينسب الولد للفراش إذا ولد بعد قيام العلاقة الزوجية، ولو لم يكن عقد النكاح قد أبرم لكون العقد لا يعتبر من أركان الزواج.”([11])ولأجله خوّل إثبات الزواج بأثر رجعي ممتد إلى تاريخ انعقاده لا تاريخ أداء الشهادة أو العلم بالواقعة. وهذا الأمر أجيز لأول مرة سنة 1957 بمقتضى مدونة الأحوال الشخصية حيث خولت الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس منها للقاضي بصفة الاستثنائية سماع دعوى الزوجية واعتماد البينة الشرعية في إثباتها، وكانت هذه البينة هي شهادة اللفيف، وقد أبقى مشرع مدونة الأسرة هذا الاستثناء وألزم الاستماع للشهود أمام المحكمة، وحدد لهذا الأمر فترة انتقالية مدتها عشر سنوات.
والحكمة من تعبير المشرع في المادة 16 من المدونة بلفظ ثبوت الزوجية بدل إثبات الزوجية، أن الإثبات يقوم به المدعي، وأما الثبوت فمعناه قيام الحجج على ثبوت الأسباب عند الحاكم (القاضي) في ظنه، فهو إذن وصف قائم بذات الشيء المدعى وقوعه، فالواقعة قائمة وإنما تحتاج إلى إظهار، فلا غرو أن يوسم الحكم بثبوت الزواج بكونه حكما تقريريا غير منشئ لوضع جديد.
فإذا أثبت المدعي دعواه أمام القاضي، فعليه أن يحكم بمقتضى ذلك، فالحكم من لوازم الثبوت، فيكون المراد من التعبير بلفظ ثبوت الزوجية، ثبوتها بحكم قضائي تقريري غير كاشف([12]).
إن خطورة الخوض في موضوع ثبوت الزوجية وكون أثره متعديا إلى الغير وتعلقه خلافا لما قد يظن بأكثر من جانب شكلي صياغتي متعلق بالإشهاد والتوثيق وتعلقه بالأعراض والأنساب والميراث .تقتضي منا كقيد منهجي مدارسة أبرز إشكالاته الموضوعية والإجرائية الفقهية والقانونية، وهو ما سنبسط القول فيه بتفصيل مستقص وفق منهج اعتصمنا به في سائر ثنايا هذا الكتاب، حاصله العكوف على القضايا الهامة والخلافية، مع توضيح مبنى الخلاف والبديل المقترح، من خلال الإتيان بشواهد عملية صادرة عن قمة الهرم القضائي المغربي، حيث نعرض في المطلب الأول لبيان معنى السبب القاهر المانع من توثيق عقد الزواج في إبانه، المراد قانونا، والمعتمد قضاءً، وفي المطلب الثاني لسبل إثبات دعوى الزوجية حال المنازعة. ونتولى في المطلب الثالث تحديد دور الاجتهاد القضائي في تحقيق غايات المشرع في تفعيل دعوى ثبوت الزوجية.
المطلب الأول: المقصود بالسبب القاهر المانع من توثيق عقد الزواج
من المتفق عليه فقها وقانونا أن الأصل المعتبر هو عقد الزواج المزمم لدى العدلين فلا يصار إلى دعوى الثبوت التي هي استثناء وبدل إلا في حالات قاهرة تقدر بقدرها، وقد جاء في قرار للمجلس الأعلى:” العلاقة الزوجية لا تثبت إلا بعقد والاستثناء جواز سماع دعوى الزوجية وإثباتها بالوسائل المعتبرة طبقا للمادتين 10 و16 من مدونة الأسرة”.([13]) وغني عن البيان أن الرخصة أو الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره([14])، ومع ذلك حاول المشرع التوسل بصياغة مرنة للمادة 16 من المدونة التي نظمت هذه المسطرة، عندما لم يقيد سماع دعوى الزوجية بحالة معينة لارتباطها بصعوبات وموانع متعددة ومتجددة([15])، فأطلق اليد لطالبي الثبوت لإثبات دعواهم بكافة وسائل الإثبات بما فيها الخبرة، ومَكّنَ قضاة الموضوع من كافة السبل للتحقق من مزاعم الطالبين والاستدلال على الحقيقة القانونية، فوسع بذلك ضيقا، ولم يضيق واسعا. لكن كيف يتأتى الجمع بين مراعاة حقيقية هذه المكنة الاستثنائية، وواجب التيسير مراعاة لفقه الواقع، جمعا لشتات الأسر ودرءً لتصدعها، ومنعا من جحود الأنساب واختلاطها وهما طرفا نقيض؟!
إن التوفيق بين هذين الأمرين يلزم القضاء التيسير في الإجراءات، وسرعة الفصل في الدعاوى، والتوسع في بعض المفاهيم وعدم التشدد في تقدير توافر بعض الشروط وذلك بغية تصفية جميع الحالات قبل انصرام الأجل الجديد المحدد في خمس سنوات إضافية لكن مع مراعاة واجب حماية الحقوق من الغمط والافتراء ومنع اختلاط الأنساب الذي يمكن الوقوع فيه في خضم التيسير المفرط موضوعا وإجراءات. وتلك جراحة دقيقة بمبضع القاضي تحتاج إلى دربة خاصة وملكة معينة للتوفيق بين تلك المتناقضات، والجمع بين متنافرات بغية الوصول إلى الحقيقة الواقعية، وهو ما يستلزم منا بيان معنى كون مسطرة الثبوت سبيلا استثنائيا، ومعنى وجوب التيسير الموضوعي والإجرائي فيها رفعا لكل التباس.
وهكذا يترتب على اعتبار دعوى ثبوت الزوجية سبيلا استثنائيا طائفة من الأمور أهمها:
أن الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره أيا كانت المعاذير والمسوغات.
أن لقضاء الموضوع مناقشة الأسباب الواقعية أو القانونية التي تدخل في عداد الأسباب ذ
القاهرة للتحقق من وجود المانع من توثيق عقد الزواج، أي داعي العدول عن العدول، وذلك دون توسع في تلك الأسباب بما يفضي إلى هدم الأصل المعتبر المحكّم متمثلا في عقد الزواج، ومن ثمة طغيان البدل على الأصل والرخصة على العزيمة ولأجله ينقض المجلس الأعلى كل قرار لا يوضح في ثناياه وجه الاستثناء الداعي إلى العدول عن عقد الزواج العادي([16]).أن قضاء الموضوع يستقل بتقدير الحالات الواقعية القاهرة المانعة من التوثيق دون تعقيب من لدن المحكمة الأعلى درجة، بشرط التسبيب وبيان وجه المانع القاهر وتجلياته من خلال وقائع النازلة، وهذا الأمر يتيح لمحكمة التعقيب أمرين، أولهما التحقق من وجود الواقعة المانعة من التوثيق، وثانيهما دخولها في عداد المبررات المقبولة، فإذا عنّ التسبيب وبان فلا تثريب ولا رقابة([17]).
أن قبول المانع القاهر رهين بانتفاء وجود الأصل، والقضاء ملزم بالتحقق من هذا الأمر بكل سبل الإثبات المتاحة، بصفة تلقائية أو بناءً على طلب من له المصلحة خصوما ونيابة عامة. وتأسيسا عليه اعتبر المجلس الأعلى أنه لما استمعت المحكمة إلى شهود الطاعنة واعتبرت شهادتهم غير منتجة في الدعوى لعدم حضورهم مجلس العقد وعدم ثبوت الأسباب القاهرة التي حالت دون توثيق العقد تكون قد عللت قرارها تعليلا سليما([18]).
أن المشرع لم يحصر حالة الاستثناء في مكان أو زمان أو أشخاص معينين فالقاعدة القانونية لا تقيم تمييزا بين عموم المواطنين في الاستفادة من مكنة معينة، فلم يحصرها المشرع في نطاق زمني معين لتسري حتى على الحالات الواقعة قبل دخول المدونة، ولم يحصرها في مجال جغرافي معين، مقتصرا على البوادي دون الحواضر أو في المغرب دون الخارج، لعموم البلوى فيها كلها، ولم يحصرها في موانع معينة لكونها مستجدة تستعصي عن كل حصر، ولم يقصرها على فئة عمرية معينة، كأن يستثني القصر ويجيزها لغيرهم لعدم حرمان هؤلاء من تصحيح أوضاعهم. فترك الباب مواربا أمام كل مدع لإثبات دعواه في إرسال تشريعي متعمد يحقق غايات عدة، يستفيد منها المتقاضي بتنويع معاذيره الواقعية وتكليفه بما يطاق، والقاضي بتصحيح حالات مختلفة بسهولة ويسر يحمي بمقتضاها حق الزوجة في عقد صحيح، والأبناء في نسب صريح، وحق المجتمع في المحافظة على التماسك الأسري. وهكذا اعتبر المجلس الأعلى أن: “إثبات دعوى الزوجية غير مقيد بتوفر العدول، وعدم توفرهم، ولا بزمان أو مكان معين، بل يمكن للمحكمة استخلاص عناصر حالة الاستثناء المتمثلة في وجود ظروف أو صعوبات حالت دون إشهاد الزوجين على زواجهما في حينه لدى عدلين.”([19]).
أن تفريط الزوج في توثيق عقد الزواج مع قدرته على ذلك، لا يدخل قطعا في عداد حالات الاستثناء المقبولة، بل إن ذلك رهين بعدم القدرة وانتفاء المانع، لقاعدة أن المفرط أولى بالخسارة([20])، ولعدم إمكان استفادة المتحايل من تحايله.
بيد أن حقيقة الاستثناء وقيوده ومحاذيره لا تمنع القضاء من واجب التيسير الإجرائي والموضوعي محافظة على لحمة الأسرة ورابطة النسب، ولهذا الأمر مظاهره وشواهده، منها:
اعتماد المستند العام متمثلا في المخالطة أو المجاورة أو الاطلاع، بدل المستند الخاص المتمثل في حضور الشاهد مجلس عقد الزواج ومعرفة كافة أركانه وليا وصداقا وهو أمر خلص إليه المجلس الأعلى بمقتضى قرارات متواترة([21])، متراجعا بذلك عن اتجاهه السابق المستلزم وجوب الاعتماد على المستند الخاص([22]). رغم أن الأصل اشتراط المستند الخاص في شهادة الشهود بثبوت الزواج وهو ما تطلبه الفقهاء في كل ما تستباح به الفروج وفي طليعته الزواج([23])، بخلاف المال أو ما يؤول إليه، حيث يقبل فيه التعويل على مجرد المستند العام([24]). واشتراط المستند الخاص الذي قد لا يدركه حتى أخص القرابة، فيه تنطع ومغالاة وتكليف بما لا يطاق، ومدعاة إلى ذيوع شهادة الزور وتلقين الشهادة. وهكذا كان المجلس الأعلى يستلزم ثبوت الزوجية بالبينة المستفسرة المتضمنة للمستند الخاص، ومعناها حضور الشهود حفلة الزفاف وطول مدة الزواج ووجود الولد([25])، فمن أين يأتى بمثل هذا المستند الخاص التفصيلي، مهما بلغ إطلاع الشهود على جزئيات الزواج؟! وهل المهم الغايات أم الوسائل؟ ثم أليس المراد تصحيح أوضاع مختلة تشوفا إلى تحقيق غايات شرعية، فيغتفر في المحامل المفضية إليها؟
الاستعاضة عن نصاب اللفيف العددي المتعارف عليه وقدره اثنا عشر شاهدا والذي كان يستلزمه المجلس الأعلى وجوبا في دعاوى الثبوت بما هو دونه من تلقية أوأقل منها حال عدم المنازعة، وكون الزوجين على قيد الحياة، وإلا وجب الالتزام بالنِّصاب العددي المعروف؛ لأن الاستكثار من الشهود يزيد الشهادة صدقا ولزوما وحجية([26]).
التوسع في مفهوم السبب الاستثنائي المانع من توثيق عقد الزواج وفق أصوله المرعية، ومن ثمة قبول كل حالة واقعية مانعة من توثيق عقد الزواج، دون وقوف على حالات معينة على سبيل الحصر الذي لا يتوسع فيه.
قبول تصفية جميع الحالات غير الموثقة، لتشمل حتى الحالات الحادثة بعد دخول المدونة حيّز التطبيق ووجود العدول في سائر مناحي المغرب، دون اعتداد بحيّز زمني مُقيّد.
قبول بعض الحالات التي وقع فيها تحايل متى أثمرت العلاقة الزوجية عن وجود حمل أو ازدياد أبناء، حماية لحقوق هؤلاء في النسب ولاستفادتهم من آثاره المختلفة، سيما التسجيل في الحالة المدنية والتمدرس، دون تمسك حرفي بقاعدة وجوب المعاقبة بنقيض القصد، وإنما تقدّر كل حالة بقدرها، لكن لا يسوغ الجهر بذلك في الأحكام بما يفضي إلى استغلال الناس لهذا الأمر الواقعي بعسف. وتأسيسا على ذلك جاء في حكم صادر عن ابتدائية مراكش :”وحيث إنه في النازلة، فإن الطرفين لم ينجبا أبناءً، وليست طالبة الزوجية حاملا حتى يتشفع لها ذلك في تبرير تحايلها على النص القانوني.”([27])ولسنا في حاجة هنا إلى تذكير المحكمة بأنه لا شيء يشفع لتبرير التحايل على النص القانوني.
ولا ريب أن القضاء إنما يركن في التيسير الإجرائي والموضوعي لمؤيدات واقعية، حاصلها الحرص على جمع لحمة اّلأسرة وحماية حق الزوجة من الجحود ونسب الأبناء من الإنكار، ومؤيدات قانونية تجد سندها في المقتضى القانوني المجيز، فضلا عن مناشير ودوريات وزيرية متعددة تحث على ذلك([28])، وهكذا نجد أن المشرع:
ضرب أجلا جديدا إضافيا لتصفية جميع حالات ثبوت الزوجية غير الموثقة وإعطاء فرصة للأزواج لتصحيح أوضاعهم.
أعطى للمحكمة سلطة واسعة للوقوف على صحة ادعاءات الخصوم والاستدلال على المزاعم دون تقييد سلطتها تلك بقيود أو ضوابط، غير الالتزام بكل ما من شأنه الإيصال إلى الحقيقة القضائية والواقعية.
لم يتشدد في وسائل إثبات الزواج المدعى وقوعه وأطلق اليد لكل مدع للإثبات مالم تقع المنازعة في ذلك، أو كان الزوجان أو أحدهما ميتا([29]).
أجاز قبول شهادة الشهود دون التجريح لقادح القرابة، إذ الغالب قصر حضور مجلس العقد والإحاطة بأركان الزواج صيغة ووليا وصداقا على أقرب المقربين، ولا تكليف إلا بمستطاع وبمقدور، مع قصر هذا الأمر حال اتفاق الزوجين وعدم وجود منازعة، وإلاّ جاز التجريح بما يُجَرَّحُ به الشهود عادة من قرابة أو تبعية للمشهود له أو عداوة مع المشهود عليه([30]).
ولما كان الأصل هو عقد الزواج الموثق لدى عدلين، فإنه لا يصار إلى استصدار حكم بثبوت الزواج إلا بعد ثبوت وجود السبب الاستثنائي المانع من توثيق عقد الزواج وهذا الأمر يقتضي منا تحرير معنى السبب الاستثنائي الذي أراده وعناه المشرع في المادة 16 من مدونة الأسرة، وربط به أمر الاستجابة لطلب ثبوت الزوجية، فأضحى الحكم التقريري به يدور معه وجودا وانتفاء. وغدا في خضم الاستسهال كل سبب يدعى دخوله في زمرة الأسباب الاستثنائية، فتنكبت إرادة المشرع في أحايين كثيرة وجُعِل هذا الاستثناء أصلا في قلب كامل للمفاهيم، فتعاظمت طلبات ثبوت الزوجية واستغلت هذه المكنة الاستثنائية تحايلا أو تراخيا رغم توافر العدول في سائر أنحاء المغرب من أدناه إلى أقصاه، وتأتِّي الإشهاد لديهم بأيسر سبيل وأقصر أجل([31]).
فالمانع من توثيق عقد الزواج إما أن يكون مانعا ماديا أو مانعا قانونيا. والمانع المادي هو كل حدث مادي حصل بسبب خارجي لا يد للإنسان فيه، وأما المانع القانوني فهو كل سبب متعلق بعدم الحصول على ما يتطلبه القانون من إذن أو رخصة أو وثيقة أو تحقق شرط أو انتفاء مانع([32]).
والمانع لا ينصرف بمعناه الدقيق الذي أراده المشرع في المادة 16 من المدونة إلا للمانع المادي الواقعي غير الإرادي، أما المانع المادي الإرادي والمانع القانوني، متمثلا في عدم الحصول على إذن أو رخصة أو وثيقة، فلا يدخلان في زمرة الموانع المقبولة لأن حصولها كان بتفريط من رب الحق أو لعدم استيفائه للشروط المتطلبة قانونا التي يُحمي بها حق خاص أو عام، فلا يسوغ والحالة ما ذكر أن يستفيد من تفريطه أو تحايله بفرضه حالة واقعة وتكريسه وضعا يصحح جبرا وخلافا للنصوص المسنونة، فالمفرط أولى بالخسارة، ولأن القول بغير ذلك فيه مسايرة للمتحايل أو المُفَرِّط، وحمل ضمني على الاستكثار من هذه السبيل والتحلل من القيود القانونية المتطلبة، كما أن من شأن ذلك إفراغ بعض المساطر والأذون من محتواها ومناقضة لغاية المشرع من إقرارها، فتغدو متجاوزة دون جزاء معاقب حال المخالفة، فتصبح الاستثناءات أصولا والأصول استثناءات،([33]) فيغدو المتحايلون والمواربون مشرّعين وفق أهوائهم.
ومن أمثلة الموانع القانونية التي لا تنهض سببا لقبول طلب الإثبات ، عدم الحصول على الرخصة اللازمة بالنسبة للعسكرين ورجال الشرطة والدرك، وعدم استصدار الإذن بزواج القاصر أو المصاب بإعاقة ذهنية أو الإذن بالتعدد حال اللزوم، وعدم الحصول على الوثائق الإدارية للزواج العادي أو المختلط([34])، وهو ما أكده المجلس الأعلى بمقتضى عدة قرارات متواترة حرص من خلالها على التمييز بين كل ذلك، منها قرار جاء فيه: “لئن كانت المادة 16 من مدونة الأسرة تجيز سماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية بسائر وسائل الإثبات ، وكذلك الخبرة، فإن ذلك لا يتأتى إلا إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، والمحكمة لما قضت بثبوت الزوجية بين الطاعن والمطلوبة بناء على شهادة الشهود المستمع إليهم، دون بيان السبب القاهر الذي حال دون توثيق العقد في إبانه ودون أن يتحقق من تطبيق النصوص القانونية المنظمة للتعدد في مدونة الأسرة التي رفع الطلب بعد تطبيقها، وهي المواد 40 وما يليها من مدونة الأسرة، تكون قد خرقت مقتضيات المواد المحتج بها، فجاء قرارها ناقص التعليل الذي هو بمثابة انعدامه مما يعرضه النقض”([35]).
ومن شواهد الموانع الواقعية التي يجوز تأسيس طلب ثبوت الزواج عليها والتي لا يمكن حصرها في نص قانوني لارتباطها بوقائع كثيرة ومتجددة، البعد عن مكان تواجد العدول، والإعاقة البدنية المانعة من التوجه صوب المحكمة أو العدول لإنجاز وثائق الزواج، وعدم القدرة المادية على استصدار الوثائق الإدارية أو أداء أجرة العدول، وكذا الغيبة الطويلة المتصلة لأحد الزوجين عن الآخر قبل توثيق الزواج لدى عدلين، والوجود في بلاد أجنبية لا عدول فيها([36])، فضلا عن وقائع أخرى يستقل قاضي الموضوع بتقدير مدى دخولها في عداد الموانع الواقعية أو القانونية شرط تعليل النتيجة التي ينتهي إليها._______________
[1]) الآية 20 من سورة الروم.
[2]) يستشف من صياغة المادة 67 من مدونة الأسرة أن المشرع المغربي يخلط بين العقد والوثيقة التي تتضمنه، حيث استهلت المادة بعبارة ” يتضمن عقد الزواج ما يلي…” والمراد تحديدا وثيقة الزواج. للوقوف على أوجه الاختلاف بين العقد وهو فكرة معنوية والوثيقة التي يدون فيها، يراجع:
- عبد الرزاق السنهوري، “الوسيط في شرح القانون المدني الجديد”، الجزء الثاني. الإثبات، أثار الالتزام، م. س، ص: 105 وما بعدها.
- Voir aussi: CH.Lorroumet, “droit Civil : les obligations: le contrat”, Tome III.Economi. Paris.1990 N°137. P : 218 et suivant.
[3]) قال الحق سبحانه و تعالى: “وأخذن منكم ميثاقا غليظا”. الآية 21 من سورة النساء.
[4]) أما المقوم الثاني فهو المقوم التأطيري وحاصله مراعاة حدود الله بما يحقق استقرار الأسرة، والمقوم الثالث هو المقوم القيمي الذي يشيع معاني الترابط والمودة والرحمة، للوقوف على تفاصيل الموضوع يراجع: بهيجة شدادي، “مقومات الأسرة في الإسلام.” درس حسني ألقي في الحضرة الملكية بتاريخ 17 رمضان 1434 هـ.
[5]) فلكل عقد مقصد وعلى العاقد أن يتحرى تحقيقه وألا يقصد قصدا مناقضا له ورغم أن القصد يكون مستتراً وحبيس الصدور إلا أن الأفعال قد تدل عليه، باعتبار أن النية وكما يقول الفقهاء يستدل عليها من الأفعال.
[6]) هذا الأمر كان يدخل في عداد حالة الاستثناء المقبولة قضاءً التي تجيز اعتماد البينة الشرعية أي اللفيف بدلا من عقد الزواج في ظل الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية الملغاة. يراجع القرار عدد 111 وتاريخ 5/5/1975 ذكره الدكتور محمد الكشبور في مؤلفه، “شرح قانون الأحوال الشخصية”، ص: 155.
[7]) ينظر على سبيل المثال، محمد الكشبور، “شرح مدونة الأسرة”، الجزء الأول، الزواج، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006. ص: 149.
[8]) خليل بن إسحاق الجندي، المختصر، مطبعة دار الحديث القاهرة، 1426 هـ 2005م، ص:96.
[9]) العقود التي يستلزم فيها القانون ورودها في شكل معين، يصطلح عليها بالعقود الشكلية، وهي تعتبر قيدا واستثناءً على أصل رضائية العقود، فتكون الغاية التشريعية ليست تغليب عنصر الشكل على الرضائية، بقدر ما تكون الغاية حماية هذه الرضائية نفسها من جميع الأخطار التي تقتضيها العمليات التعاقدية والتي يتطلب الإقدام عليها كثيرا من التروي، مما يجعلنا أمام قاعدة موضوعية وليست شكلية.
يراجع: الأمرانيزنطار محمد، ” أحكام رضائية العقود، بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي”، دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، السنة الجامعية 1989-1990- ص:353.
[10]) من ثمة حصر مشرع المدونة أمر إثبات الزواج في هذين السبيلين، عندما نص في المادة 16 من مدونة الأسرة على أنه: ” تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج، إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة”.
[11]) قرار عدد 633 وتاريخ 15/11/2006 ملف شرعي عدد 160/2/1/206 غير منشور.
[12]) فالتمييز إذن بين الاثبات و الثبوت أمر في غاية الأهمية، إنه باختصار تمييز بين أمر تقريري واقع، وآخر كاشف لوضع جديد. فالزواج واقع حقيقة وثابت فعلا لكن إظهاره و تجليته تأخر لمانع قاهر منع، و لطارئ استثنائي حال دون توثيقه وفق الأصول التوثيقية المرعية، ومن ثمة لا تملك المحكمة إلا أمر أن تنص في منطوق الحكم على لفظ الثبوت أو كل لفظ يقوم مقامه دون غيره.
[13]) قرار مؤرخ في 27/9/2006 ملف عدد 971/2/1/2006 المنتقى من عمل القضاء في مدونة الأسرة، ج1 منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، نشر المعلومة للجميع، العدد 17 فبراير 2009، ص:7.
[14]) هذه قاعدة أصولية معروفة تعقل اجتهاد المجتهد و عمل القاضي، ومعناها أن الاستثناء ما دام على خلاف الأصل، فغيره لا يقاس عليه، لأنه فرع و بدل، ولا يقاس الفرع على الفرع و البدل على البدل، كما أنه لا يتوسع في تفسيره لكونه محض رخصة واستثناء لا يلجأ إليه إلا على سبيل الضرورة.
وهي من القيود الاجتهادية الهامة التي تُطَوِّق عمل القاضي و تغل يده باعتباره المعني أساساً بتفسير النص القانوني أو الفقهي و تنزيله على الواقع في مطلق الدعاوى، زجرية كانت أو مدنية أو أسرية.
[15]) هذا الأمر بقي ساريا منذ عهد مدونة الأحوال الشخصية، فقد كانت حالة الاستثناء المبررة لسماع دعوى الزوجية غير مقيدة على صعيد العمل القضائي بحالة معينة، بل مرتبطة بصعوبات اضطر معها المتعاقدان إلى عدم إشهاد عدلين. يراجع مثلا: قرار المجلس الأعلى عدد 1326 وتاريخ 21/10/1986 ملف عقاري عدد 4886/84، مجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 40 ص: 165.
[16]) بناءً عليه جاء في قرار للمجلس الأعلى :”لما عللت المحكمة استبعادها لرسم ثبوت الزوجية الذي أدلت به الطاعنة بأنه لا يشير بتاتا إلى حالة الاستثناء التي دعت إلى إقامته والسبب الذي صرف أصحابها عن إقامة عقد الزواج في إبانه، والحال أنهم يقطنون في مدينة متوفرة على عدد كبير من العدول، تكون قد عللته تعليلا كافيا. ” قرار عدد 89 وتاريخ 24/1/2001 ملف شرعي عدد 158/2/1/2000، أورده ذ عبد العزيز توفيق، ” قضاء محكمة النقض في مدونة الأسرة “. مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2013 ص: 21.
[17]) هذا الأمر تحرص محكمة النقض حرصا موصولا على التزام محاكم الموضوعبه، و هكذا اعتبرت محكمة النقض أن سماع دعوى الزوجية المنازع فيها، يلزم المحكمة بيان الأسباب القاهرة التي حالت دون توثيق عقد الزواج. قرار عدد 13 وتاريخ 04/01/2011 ملف عدد 696/2/1/2009، المجلة المغربية للدراسات القانونية والقضائية، العدد 6 ماي 2011 ص: 258. واعتبرت في قرار آخر أنه لما ثبت (للمحكمة) عدم حصول خطبة للطرفين، وأن العلاقة المزعومة الناتج عنها الحمل موضوع النزاع مجرد علاقة فساد حسبما تُثبتُهُ وقائع القرار الجنحي الصادر بتاريخ (…) وحسبما استخلصته في إطار سلطتها من شهادة الشهود الذين وقع الاستماع إليهم في المرحلة الابتدائية تكون بذلك قد أسست قضاءها على أساس قانوني صحيح ومعلل بما فيه الكفاية “. قرار عدد: 264 بتاريخ: 26/4/2006، المُنتقى من عمل القضاء ج1، م. س، ص: 230.
وهذا الأمر كان محكما أيضا في ظل مدونة الأحوال الشخصية الملغاة، حيث كان على محاكم الموضوع أن تبين الدواعي التي حملتها على إعمال حالة الاستثناء، وذلك حتى يتمكن المجلس الأعلى من مراقبة وجود دواعي الاستثناء وأسبابه. قرار عدد 29 وتاريخ 21/2/1971 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 24 ص: 28.
[18]) قرار عدد 695 وتاريخ 30/4/2009 ملف شرعي عدد 67/2/2007 عبد العزيز توفيق، م. س، ص: 57.
[19]) قرار عدد 397 وتاريخ 21/7/2008 ملف عدد 2109/1/2004 غير منشور.
[20])هذه القاعدة الفقهية المعروفة في باب التعويض، معناها أن المفرط في تحصيل حق مستحق لفائدته، أو في مراقبة من تجب مراقبته عليه، أو عدم مراعاته للنظم والقوانين المرعية، فإنه يتحمل تبعة ومسؤولية ذلك، سواء كانت المسؤولية مدنية أو جنائية وكأنه جزاء رتبه المشرع على التفريط وعدم الحرص الواجب على كل من تحمل مسؤولية محددة عن نفسه أو غيره.
[21]) فلم يعد المجلس الأعلى يتشدد في مستند علم شهود ثبوت الزوجية، ومن شواهد ذلك اعتباره في قرار له: “أن محكمة الموضوع أقامت قضاءها على ما اطمأنت إليه من أدلة منتجة في الدعوى ومنها البحث الذي أجرته المحكمة الابتدائية في القضية (…) مما يخلص منه أن ركن الرضا بالزوجية ثابت بإرادة الطرفين، وشهادة اللفيف الذين بنوا مستند علمهم على المخالطة والمجاورة، مما يعني أن النكاح قد اشتهر بين الناس وفشا خبره، مما يكفي لثبوته وإن لم يحصل اشهاد من ولي وقت انعقاده، لأنه ليس بركن في العقد ولا يشترط فيه وإنما هو مندوب”. قرار عدد 505 وتاريخ 09/17/2005 ملف شرعي عدد 19/2/1/2004 ذكره الدكتور محمد الكشبور في شرحه لمدونة الأسرة، الجزء الأول، الزواج، مطبعة النجاح الجديدة 16/2006 بهامش ص: 286.
[22]) هكذا دأب المجلس الأعلى في قرارات عديدة كان ينقض فيها كل قرار يؤسس قضاءه بالثبوت على المستند العام، ومن ذلك قرار جاء فيه:”ومن القواعد الفقهية المعتبرة عند تعارض البينات ترجيح ما كان مستند العلم فيها المعاينة والحضور المعبر عنه بالمستند الخاص على ما كان مستند العلم فيها المجاورة والمخالطة”. قرار المجلس الأعلى عدد 21 وتاريخ 31/10/1960 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 35 ص: 250.
فمبنى الشهادة الاسترعائية شهادة الشاهد بما في علمه، وهذا العلم إما أن يكون مبنيا على مستند أو سبب عام أو خاص والمراد بالمستند العام في فقه الشهادات المخالطة والمجاورة وشدة الاطلاع، وأما المستند الخاص فيقصد به الحضور والمعاينة ومعرفة الأركان. للتفصيل أكثر يراجع عبد الواحد العلوي: “مقدمة في الوثائق وفقهها في التشريع الإسلامي”، مجلة القضاء الإسلامي، عدد 118 ص: 399 وعقبها.
[23]) هكذا قَبِل المجلس الأعلى اعتماد المستند العام في شهادة لفيف لتعلق الدعوى باثبات الحق في الإرث لا استباحة فرج. قرار غرفة الأحوال الشخصية عدد 773 وتاريخ 7/7/1992 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 46 ص: 173.
[24]) بناء عليه اعتبر المجلس الأعلى أن “… البيوعات والمقاسمات والمخارجات، وما فيه رائحة تفويت، لا يكتفي فيها بالمستند العام بل لابد فيها من المستند الخاص، فلا يكتفي فيها من الشهود بالمستند العام، بل لابد من المستند الخاص المطلوب في مثلها، وهو حضورهم لهذه المبادلة”. قرار عدد 129 وتاريخ 9/2/1982 ذكره أحمد أدريوش في مؤلفه: “نطاق ظهير الالتزامات والعقود”، (تأملات حول موقف القضاء المغربي من مشكلة علاقة ظهير الالتزامات والعقود بالفقه الإسلامي)، سلسلة المعرفة القانونية -3، الرباط 1996، ص:116.
[25]) يراجع مثلا القرار عدد: 337 وتاريخ 10/7/2003 ملف شرعي عدد 352/2/2/2001، عبد العزيز توفيق، “قضاء محكمة النقض في مدونة الأسرة “. م. س، ص: 23.
[26]) من هذه القرارات قرار جاء فيه:” الزوجية لا تثبت بتصريح ثلاثة أشخاص غير عدول، وإنما أن تتوفر في البينة الشرعية الشروط المعتبرة فقها وقانونا.” قرار عدد 480 وتاريخ 25/01/2006 ملف عدد 5/2/1/2006، أورده أبراهيم بحماني في مؤلفه، “العمل القضائي في قضايا الأسرة، مرتكزاته ومستجداته في مدونة الأحوال الشخصية ومدونة الأسرة”.مكتبة دار السلام، 2009. ص: 189.
[27]) أورده الدكتور الكشبور في شرحه لمدونة الأسرة، ج1 الزواج، م س، ص: 294.
[28]) من هذه المناشير، منشور عدد 50 س 2 وتاريخ 2 فبراير 2005 حول سماع دعوى الزوجية والذي حثت من خلاله وزارة العدل السادة القضاة على ضرورة تقدير الظروف التي حالت دون توثيق الزواج في إبانه، أو عند البحث والتحري أو عند ترتيب الآثار. وكذا دورية وزير العدل عدد 16 س2 وتاريخ 23 سبتمبر 2012 حول تفعيل التعديل المدخل على المادة 16 من المدونة، ودورية وزير العدل عدد 12 س 2 وتاريخ 26 مارس 2013 والتي طلب بمقتضاها من المحاكم مراعاةً للأجل الإضافي المخول للمواطنين لتقديم دعاوى ثبوت الزوجية عقد ندوات جهوية بالتنسيق مع السلطة المحلية لتحسيس المواطنين المعنيين وحثهم على هذا الأمر، وعقد جلسات تنقلية بمراكز القضاة المقيمين وحكام الجماعات والأسواق النائية واتخاذ كل الترتيبات الضرورية للتسهيل على المواطنين المعنيين بثبوت الزوجية من خلال وضع إعلانات تتضمن نماذج طلبات ثبوت الزوجية توضع رهن إشارتهم، وتحديد الوثائق المتطلبة وعدد الشهود والإشارة إلى إمكانية استفادة المواطنين المعوزين من المساعدة القضائية، والتعامل بالمرونة والتيسير والتبسيط في كل المساطر والإجراءات، ومراعاة كل الظروف والملابسات وسائر وسائل الإثبات بما فيه القرائن والحد الأدنى المعتبر من الشهود والتعجيل بالبت في دعوى الزوجية في وقت ملائم مراعاة للفترة المحددة قانونا لسماعها.
وفيما يخص المساعدة القضائية التي نصت الدورية المذكورة على إمكان استفادة المتقاضي منها فقد نظمت بمقتضى المرسوم عدد 65-514 بتاريخ 17 رجب 1386 بمثابة قانون يتعلق بالمساعدة القضائية، نشر بالجريدة الرسمية سنة 1966، حيث جاء في فصله الأول : ” يمكن منح المساعدة القضائية لدى جميع محاكم المملكة، وكيفما كان الحال إلى الأشخاص والمؤسسات العمومية أو ذات المصلحة العمومية والجمعيات الخصوصية القائمة بعمل إسعافي والمتمتعة بالشخصية المدنية والجنسية المغربية التي نظرا لعدم كفاية مواردها تكون غير قادرة على ممارسة حقوقها أو الدفاع عنها أمام القضاء، وذلك علاوة على الحالة التي يستفيد فيها الأجانب من هذه المساعدة عملا بالمعاهدات.
تطبق هذه المساعدات على كل نزاع وعلى كل المطالبات بالحق المدني أمام محاكم التحقيق وإصدار الأحكام، كما تطبق خارج كل نزاع على أعمال القضاء الإداري والأعمال التحفظية. ولا يعمل بالمقرر الممنوحة بموجبه المساعدة القضائية إلا فيما يتعلق بالعقود والعمليات المنجزة بعد صدوره، اللهم إلا إذا كان قد تم منح مقرر مؤقت فيما سبق “.
[29]) إن حماية حقوق المتوفى المدعى وقوع الزواج منه، وحماية الحقوق المالية و المعنوية لورثته الذين غالبا ما لا يستدعون في دعوى الثبوت، تقتضي التحري والاستيثاق من واقعة الزواج المزعومة، عبر الاستكثار من شهود الإثبات، ولو حال عدم المنازعة، والتعويل على مستند العلم الخاص ما أمكن، ومراعاة القيود الإجرائية والشروط الموضوعية للاستماع للشهود ورفض الطلب حال التشكك والارتياب في وجود العلاقة المذكورة.
[30]) بناءً عليه جاء في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالرباط: “وحيث إن الشاهدين بعد التأكد من هويتهما ونفيهما موانع الشهادة وأدائهما اليمين القانونية، أكدا الوقائع المسطرة أعلاه جملة وتفصيلا. “حكم صادر عن قسم قضاء الأسرة، عدد: 1514 ملف 10/1376/08 وتاريخ:22/12/2008 غير منشور.
[31]) فكان بذلك العذر بعدم تأتي الإشهاد لدى العدول، لعدم وجودهم أو لبعدهم عذرا مردودا في أغلب الحالات، لتوافر العدول في شتى بقاع المغرب، الأمر الذي يستلزم التحقق من مثل هذه المزاعم المعتبرة كمبرر موضوعي استثنائي والتي يقع عبئ إثباتها على مدعيها طالما أن الأصل وجود العدول في كافة الأنحاء.
[32]) هذا الأمر يتعين بيانه وتجليته في حيثيات الحكم، ببيان المانع القانوني عند الاستبعاد، والمانع الواقعي حال الاعتماد، حتى يتأتى للمحكمة الأعلى درجة مراقبة سلامة النتيجة التي انتهت إليها المحكمة المعقب على حكمها.
[33]) مثل هذا الأمر من شأنه نقض غاية المشرع من إفراد المساطر الأصلية لطغيان المساطر البديلة، والأصل فيها ألا تكون مقبولة إلا في حالات ضيقة لا ينبغي التوسع فيها بحال، مهما كانت الذرائع القانونية والمعاذير الواقعية المُساقة من قبل الخصوم.
[34]) إذا اضطرت المحكمة إلى الاستجابة لطلب ثبوت الزواج المختلط، نتيجة وقوع حمل أو وجود أبناء، فإنه يتعين أن يُصار إلى نفس الاجراءات التي يتعين اتخاذها حال طلب الزواج المختلط في الأحوال العادية تحرزا، خاصة البحث المجرى بواسطة النيابة العامة، حماية لحقوق الزوج المغربي الذي قد لا يتفطن في خضم تسرعه ورغبته في توثيق الزواج في أقرب وقت والانتقال بمعية الزوج الآخر إلى خارج المغرب، بأنه وقع ضحية نصب أو تدليس من قبل الزوج الأجنبي الذي يقضي وطره ويتوارى عن الأنظار، فتبتلى الزوجة بمصيبتين، كونها كانت ضحية نصب، وصعوبة الحصول على التطليق، فأحرى المستحقات.
[35]) قرار عدد 128 وتاريخ 25/3/2009 ملف عدد 558/2/1/2008 مجلة القضاء المدني، العدد الثالث، السنة الثانية، شتاء/ ربيع 2011، ص: 182.
[36]) رغم نزوع الدولة في الآونة الأخيرة إلى تعيين عدد من قضاة التوثيق والعدول في أهم سفارات المغرب بالدول الأجنبية تلك التي تعرف وجود جالية مغربية مهمة، وذلك حتى يتأتى لهم اقتضاء حقوقهم من خلال استصدار مختلف الرسوم والإشهادات بأيسر سبيل دون الاضطرار في كل لحظة وحين إلى العودة للمغرب لمجرد إنشاء وثيقة عدلية.
Leave A Comment