الاستاذ انور الحمدوني

بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرا ما يصادف العدول عند قيامهم بمهامهم في الإشهاد على الناس و توثيق تصرفاتهم إشكالات ومسائل فقهية وقانونية . وقد سبق أن عرضت على زملائي العدول والمهتمين ، عبر نادي عدول المغرب وغيره ، هذه النازلة قصد تبادل وجهات النظر وإثراء النقاش الفقهي والقانوني المرتبط بميدان حيوي يقوم بدور كبير في مساعدة القضاء وتوفير مستندات تدعم ما يتوخاه من إقامة العدل وتمكين ذوي الحقوق من حقوقهم .
وتتلخص النازلة في تلقي إشهاد عدلي بالرجوع في وصية من طرف سيدة اسمها ” حادة.” سبق لها أن قامت بها لفائدة أولاد ولدها ، وتبين لها اليوم ضرورة الرجوع فيها وإبطالها ، غير أن السيد القاضي المكلف بالتوثيق رفض الخطاب على هذا الرجوع بحجة عدم الإشارة إلى مراجع الوصية وبيانات تضمينها .بكناش تضمين الشهادات بالمحكمة ،وعند طلب إعادة النظر في موقفه احتج في تعليل اجتهاده ، الذي نحترمه وإن كنا نرى خلافه ، بأن إنجاز وثيقة رسمية بكل ما لها من آثار قانونية لا ينبني على افتراض وإنما على بيانات صريحة سليمة وقانونية .
وقد بينت وجهة نظري في النازلة ، وأحب أن أبسط القول في ذلك رغبة في إثراء النقاش الفقهي والقانوني في موضوع يرتبط بحقوق الناس ومعاملاتهم من جهة ، وبكيفية تدبير جزء من منظومتنا القضائية تحتاج إلى تجديد وتطوير من جهة أخرى. فأقول وبالله التوفيق:
1- لقد نظم المشرع المغربي ما يتعلق بالوصية من خلال تخصيص الكتاب الخامس من مدونة الأسرة لأحكام الوصية باعتبارها عقدا يوجب حقا في ثلث مال عاقده يلزم بموته ، وتعرضت لشكل الوصية في المادة 296 التي نصت على أنه : ” يشترط في صحة الوصية أن يصدر بها إشهاد عدلي أو إشهاد أية جهة رسمية مكلفة بالتوثيق أو يحررها الموصي بخط يده مع إمضائه . فإذا عرضت ضرورة ملحة تعذر معها الإشهاد أو الكتابة قبل إشهاد الموصي على وصيته من اتفق حضورهم من الشهود شريطة أن لا يسفر البحث والتحقيق عن ريبة في شهادتهم ، وأن تؤدى هذه الشهادة يوم التمكن من أدائها أمام القاضي ، الذي يصدر الإذن بتوثيقها ، ويخطر الورثة فورا ويتضمن الإخطار مقتضيات هذه الفقرة …”
أما الرجوع في الوصية فلم تحدد له مدونة الأسرة شكلا معينا ، بل توسعت في أحكامه ، حيث نصت المادة 286 على أنه : ” للموصي حق الرجوع في وصيته وإلغائها ، ولو التزم بعدم الرجوع فيها ، وله إدخال شروط عليها وإشراك الغير فيها ، وإلغاء بعضها كما شاء وفي أي وقت يشاء ن في صحته أو مرضه ” بينما نصت المادة 287 على أنه : ” يقع التعبير عن الوصية بالقول الصريح أو الضمني أو بالفعل كبيع العين الموصى بها ” بل إن المادة 306 ذهبت إلى أبعد مدى حيث نصت على أن من أوصى بشيء معين لشخص ثم أوصى به لآخر ، اعتبرت الوصية الثانية إلغاء للوصية الأولى .
وحيث إن ملكية الحقوق العينية العقارية تنتقل عن طريق الإرث والوصية بمنطوق المادة 264 من القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية ،فقد تعرض هذا القانون من جهته للشكل الذي تثبت به هذه الحقوق ، حيث نصت المادة الرابعة على أنه : ” يجب أن تحرر – تحت طائلة البطلان – جميع التصرفات المتعلقة بنقل الملكية أو بإنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها بموجب محرر رسمي ، أو بمحرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك …”
وهكذا يلاحظ مدى المرونة التي أحاطها المشرع بأحكام الوصية ، والتوسع في طرق إنشائها أو إبطالها ، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي :
– الإشهاد العدلي
– محرر رسمي تنجزه جهة رسمية مكلفة بالتوثيق
– محرر ثابت التاريخ من طرف محام حسب التفصيل الوارد بالقانون المشار إليه .
– إشهاد بالوصية يحرره الموصي بخط يده مع إمضائه .
– شهادة الشهود بصدور الوصية من الموصي في حال ضرورة ملحة تعذر معها الإشهاد أو الكتابة ، على أن تؤدى هذه الشهادة الشفوية أمام القاضي الذي يصدر الإذن بتوثيقها.
وبذلك يتبين لنا أنه لا يجوز التعامل مع الوصية باعتبارها لا تثبت إلا بوسيلة واحدة ووحيدة ، حيث لا يشترط القانون في الوصية أن تكون فقط بإشهاد عدلي ، بل يجوز كتابتها خطيا من طرف الموصي مثلا ، فلا يمكن والحال هذه إلزام طالبة الرجوع بسند الوصية ، وهي التي صرحت أمام العدلين بعدم التوفر عليه نظرا لحيازته من طرف الموصى له ، وتعذر عليها الحصول على نسخة منه لكونها لم تعد تذكر لا تاريخه ولا ظروف كتابته . فما العمل مثلا لو كانت الوصية خطية وحازها الموصى له ، هل يسقط حق الموصي في الرجوع ؟
2- إن من القواعد المرعية أن الإقرار مقدم على البينة ،والإقرار كما عرفه بعض العلماء : إخبار عن أمر يتعلق به حق الغير ، ويقول أشهب من المالكية : قول كل أحد على نفسه أوجب من دعواه على غيره وعند الشيخ خليل : يؤاخذ المكلف بلا حجر بإقراره على نفسه.
وهذا الأصل مستفاد من عدد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ففي تفسير قول الله تعالى من سورة البقرة : ” وليملل الذي عليه الحق ” يقول الإمام الجصاص في كتابه أحكام القرآن :” فيه إثبات إقرار الذي عليه الحق وإجازة ما أقر به وإلزامه إياه . لأنه لولا جواز إقراره إذا أقر لم يكن إملاء الذي عليه الحق بأولى من إملاء غيره من الناس ، فقد تضمن ذلك جواز إقرار كل مقر بحق عليه”.
وباستحضار هذه المعاني ، نقول إن شهادة الرجوع المشار إليها قد تضمنت إقرار صاحبته بأنه سبق لها الوصية لأولاد ولدها في تاريخ سابق ،وهو كاف لأخذ قولها بعين الاعتبار لأنه ليس هناك ما يناقضه أو يوجب رده لعلة قادحة أو لاحتمال ضرر بالغير مثلا ، فكيف يطلب منها إثبات حق لغيرها يبيح لها القانون التراجع عنه لكونه في الحالين يخضع لإرادتها وحريتها في التصرف.
وقد تبين لنا أن المرء مؤاخذ بإقراره في المال والنسب والميراث وغير ذلك. فلا يصح مثلا تكليف دائن بعبء إثبات دين بوسيلة كتابية أو غيرها إذا كان المدين يعترف به ،أو إلزام المكري ببينة على علاقة كرائية لا ينكرها المكتري بل يقر ويعترف بها ، وإلا أصبحنا أسرى المظاهر والأشكال عوض إعمال المقاصد والغايات التي أناطت بها الشرائع والقوانين تحقيق العدل والإنصاف.
وقد أولى القانون هذا الجانب ما يستحقه من الاعتبار ، فجعل الإقرار حجة إثباتية قاصرة على صاحبها مقابل البينة التي تعتبر حجة متعدية كما يتبين لنا من تصفح فصول قانون الالتزامات والعقود ، حيث ينص الفصل 411 مثلا على أن : ” إقرار الوارث ليس حجة على باقي الورثة ، وهو لا يلزم صاحبه إلا بالنسبة إلى نصيبه وفي حدود حصته من التركة ” ، كما لم يغفل القانون والفقه على السواء عن بيان الحالات التي لايعتد فيها بالإقرار وهي ، غير متوفرة في الشهادة موضوع النازلة .
كما جرى عمل القضاء على اعتماد الإقرار ، وأرست محكمة النقض قاعدة ” الإقرار حجة على المقر تعفي المقر له من الإثبات ” ، وكمثال عملي يقاس عليه نشير إلى قرار صادر عن محكمة النقض تحت عدد 473 بتاريخ 19/07/2006 في الملف الشرعي عدد 22/2/1/2006 وبمقتضاه يعتبر ناقص التعليل القرار القاضي بأداء مؤخر الصداق الذي تم أداؤه بإقرار المستفيدة منه ، فليتأمل .
3- إذا كانت للضرورة أحكام خاصة كما سطر ذلك فقهاؤنا الأجلاء ، فإن أدنى ما يمكن إيراده في هذه المسألة أن الضرورة اقتضت الإشهاد على المرأة المذكورة بالرجوع في وصيتها لكونه تصرفا شخصيا لها وليس تعاقدا بين طرفين ،لأن الوصية كما هو معلوم تنعقد قانونا من جانب واحد وهو الموصي ولا تتطلب قبولا من الموصى له ، والذي يبقى له الحق في رد الوصية بعد موت الموصي، وعليه يكون الرجوع في الوصية ، كما في إنشائها ، تعبيرا عن إرادتها المنفردة ، لا يسوغ تقييده بقيود زائدة عما يفي بالمطلوب، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما أتاحه لها القانون من إمكانية الإشهاد برجوعها في الوصية بطرق أخرى في غاية البساطة واليسر، سواء لدى موثق عصري أو بمحرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض، ولا يحتاج إلا لتصحيح إمضائها من طرف السلطات المحلية والتعريف بإمضاء المحامي من لدن رئيس كتابة الضبط بالمحكمة، فهل تكون هذه الوسائل أجدى نفعا وأكثر فائدة من الإشهاد العدلي الذي لحقه من القيود والتعقيدات ما يوشك أن يقتل جذوته ويبيد روحه الخلاقة، وهو الأصل الأصيل في التوثيق بهذا البلد منذ قرون خلت ، قبل أن نبتلى بالحماية الأجنبية التي مسخت كثيرا من أحوالنا ونظم حضارتنا ؟

بقلم : ذ. أنور الحمدوني *

* عضو الهيئة الوطنية للعدول

العرائش